تزكية النفس

التعرف إلى الله المنعم ودوره في علاج العجب

التعرف على المنعم، ومعرفة حقه سبحانه وتعالى على عباده من الأهمية بمكان في علاج تضخم الذات ورؤية العمل.

والمستهدف منه: أن لا يرى أحدنا لنفسه حقًا على الله عز وجل لأجل عمله الصالح، فحقوق الله تعالى علينا أعظم من أن يقوم بها العباد، ونعمه أكثر من أن تحصى، وأنه لا يستوجب أحدنا بسعيه نجاحًا ولا فلاحًا، ولا نجاة من النار ولا فوزًا بالجنة.

هذا المستهدف لن نستطيع تحقيقه إلا إذا عرفنا حق الله على عباده وأجبنا عن سؤال يقول: أين نحن من أداء هذا الحق؟!

يقول ابن القيم: لله تبارك وتعالى على عبده نوعان من الحقوق لا ينفك عنهما.

أحدهما: القيام بأمره ونهيه اللذين هما محض حقه علينا.

الثانى: شكر نعمه التي أنعم بها علينا.

فهو سبحانه وتعالى يطالبنا بشكر نعمه والقيام بأمره.

فبالنسبة لأمره ونهيه: فإن الدين ليس مجرد ترك المحرمات الظاهرة بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله.. مثل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه.. وأقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا كلها[1].

هذا بالنسبة لحق الله في أوامره ونواهيه.

أما حق الله في نعمه على عباده فهذا أمر يحتاج إلى بعض البيان والتفصيل.

من صور النعم:

الله عز وجل أنعم على كل واحد منا بنعم لا تعد ولا تحصى.

منها نعم الإيجاد من العدم: إنسانًا سويًا، عاقلًا، له عين ترى، وأذن تسمع، وعقل يفكر، وقلب ينبض، ورئة تستنشق الهواء، وكليتان تنقيان الدم من السموم، وأيد تبطش، وأرجل يمشى بها، وفم وأسنان ولسان وحواس، وأجهزة المناعة والامتصاص والإخراج، والهضم، وغدد، و……..

وإذا أردت أن تعرف قيمة نعمة واحدة من هذه النعم فأغمض عينيك، أو سد أذنيك، أو امنع يديك من الحركة، ثم تأمل تأثير ذلك عليك… انظر إلى أهل البلاء لتعرف معنى العافية. تذكر المطروحين في الطريق، ومرضى المستشفيات، تذكر المشلول والأبكم والأصم و………

ومن النعم كذلك: نعم الإمداد: إمداد كل عضو في جسمك وكل خلية فيه بما يمكنه من الاستمرار في أداء عمله.

ومن النعم: الحفظ الدائم لهذه الأعضاء.

ومنها: نعم التسخير: تسخير الوالدين للاعتناء بك وتربيتك، وتسخير الأرض والشمس والهواء والرياح والطعام وسائر أعضائك لك.

ومن النعم أيضًا: نعمة الأمن والستر.

ومن النعم أيضًا: نعم الهداية إلى الإسلام وإلى الإيمان والثبات عليهما.

ومنها: نعم العصمة من الكفر وعبادة الأوثان.. من أن تكون هندوسيًا أو يهوديًا أو نصرانيًا، وكذلك العصمة من سائر الذنوب: كالزنا واللواط والقتل والسرقة وشرب الخمر والربا وإدمان المخدرات و… فكل معصية تحدث على الأرض ولا تفعلها تحمل في طياتها عصمة لك من الله عز وجل.

ومنها: نعم سبق الفضل والاجتباء: فأنا وأنت لم نختر لأنفسنا أن نكون في هذا العصر، أو أن نكون من أبوين مسلمين، فرحمته سبحانه وتعالى وفضله علينا سبقت وجودنا، فلم يشأ أن يخلقنا في زمن قوم عاد أو ثمود أو من آل فرعون، ولم يخلقنا كذلك من أبوين يهوديين أو يعبدان الصليب أو يسجدان للبقر، ولم يجعلنا في أماكن الفتن والاضطهاد.

.. نعم كثيرة لا تعد ولا تحصى ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20].

فإن كان الأمر كذلك فما هو حق هذه النعم؟!

الشكر والعبادة:

يقول تعالى لموسى عليه السلام ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [ الأعراف: 144 ].

فكل نعمة أنعمها الله علينا لها مقابل، ألا وهو الشكر ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [ النحل: 78 ].

ومن أهم صور الشكر: العبادة ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾[ آل عمران:42،43].

فإن كان الأمر كذلك فهل نستطيع أن نؤدي شكر كل النعم التي حبانا الله إياها؟!

حجم الشكر المطلوب:

لو افترضنا أن كل نعمة من نعم الله علينا تحتاج إلى ساعة –على الأقل– من السجود لله عز وجل كل يوم لتستمر في أداء دورها.. إما أن أسجد هذه الساعة أوتمتنع النعمة عنك، فالقلب سيتوقف، والعين لن تبصر، والكبد لن تعمل، والكلية لن تنقي السوائل، والنخاع لن يفرز خلايا الدم، وخلايا الجسم لن تمتص السكر.. البول سيحبس والدم لن يتأكسد، والغدد سيتوقف إفرازها… لن نتمكن من السماع أو الكلام أو الشم أو اللمس… المعدة سترفض استقبال الطعام، والعضلات سترتخي، والنوم لن يأتي … .

لو افترضنا ذلك في كل ما أنعم الله به علينا… لوجدنا أننا نحتاج إلى مئات بل آلاف الساعات نسجد فيها لله كل يوم لنؤدي جزءًا يسيرًا من حقه علينا فيما حبانا به من نعم …

جاء في الحديث: لو أن رجلًا يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرمًا في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة[2].

هذه الحقيقة عندما تستقر في كيان الإنسان فإن من شأنها أن تنسيه عمله الصالح، بمعنى أنه لن يظن أن له مكانة عند الله بهذا العمل، أو أنه يستحق به دخول الجنة، ودرجاتها العلى، بل يعمل ويجتهد فيه ثم يستغفر الله بعد القيام به لشعوره بأن حق الله عليه أعظم مما يفعل، وأنه إن لم تتداركه رحمة الله وعفوه فسيهلك، كمن أدان شخصًا بمبلغ كبير من المال يبلغ مثلًا مليون دينار، ثم قام هذا الشخص بالاجتهاد في العمل وفى نهاية كل شهر قام بسداد درهم واحد… ما هو شعور هذا الشخص وهو يقدم الدرهم لدائنه؟!… هل شعور الفخر والإعجاب بهذا الدرهم، أن أنه سينكس رأسه وهو يعطيه له، ويشعر بتقصيره الشديد في حقه، ويستعطفه ويرجوه أن يسامحه على تقصيره؟!! بل يرى أن قبوله له محض فضل منه وإحسان.

هذا لو كان الدين يساوي ذلك فقط، فما بالك بدين الله علينا الذي تعجز قدرات العقل عن إحصائه؟!!


[1] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 230، 231.

[2] حسن، أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح ( 5249 ).