تزكية النفس

تابع.. طلب العلاج من الله عز وجل

حسن الفهم عن الله:

ومن صور التربية الربانية: حسن الفهم عن الله فيما يرسله لعبده من آيات ورسائل.

قال تعالى:﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [ الأعراف: 168 ].

فالعبد يتعرض في يومه لأحداث كثيرة، ويتقلب بين المنع والعطاء .. وما من حدث يحدث له إلا ووراءه حكمة إلهية محورها تعريفه بربه، وتعريفه بنفسه .. ومن خلال التحليل الصحيح لهذه الأحداث يصل العبد لحقيقة علاقته بربه، وأنه لا غنى له عنه طرفة عين، فيردد من قبله ذكر: لا حولا ولا قوة إلا بالله[1].

يقول ابن عطاء: ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك. متى فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع عين العطاء.

ويقول أيضًا: ربما أعطاك فأشهدك بره، وربما منعك فأشهدك قهره، فهو في كل ذلك متعرف إليك، ومقبل بجميل فضله عليك.

التعرف على الأكفاء:

ومن صور التربية الربانية: أن يضع – سبحانه وتعالى – في طريق العبد من يشعره بنقصه وضآلة حجمه، وأن هناك من هم أعلم وأكفأ منه، ولنا في قصة موسى – عليه السلام – والخضر أبلغ مثال على ذلك.

ويؤكد على هذا المعنى الماوردي بتجربة مر بها فيقول رحمه الله.

ومما أنذر به من حالي، أنني صنعت في البيوع كتابًا، جمعت به ما استطعت من كتب الناس، وأجهدت فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى تهذب واستكمل، وكدت أعجب به، وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعًا بعلمه، ثم حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان، فسألا عن بيع عقداه في البادية، على شروط تضمنت أربع مسائل، لم أعرف لواحدة منهن جوابًا، فأطرقت مفكرًا، وبحالي وحالهما معتبرًا. فقالا: ما عندك فيما سألناك من جواب وأنت زعيم هذه الجماعة ؟ فقلت: لا. فقالا واهًا لك، وانصرفا، ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي، فسألاه، فأجابهما مسرعًا بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه، حامدين لعلمه، فبقيت مرتبكًا، وبحالهما وحالي معتبرًا. وإني لعلى ما كنت عليه في تلك المسائل إلى وقتي، فكان ذلك زاجر نصيحة، ونذير عظة، تزلل بهما قياد النفس، وانخفض لهما جناح العُجب، توفيقًا منحته، ورشدًا أوتيته[2]..

ومما يلحق بهذا الجانب أن يبين الله لنا عدم توقف الدعوة أو أعمال البر بصورها المختلفة علينا، فيقيض الله عز وجل من يقوم بالعمل وقت غيابنا عنه – لأي سبب من الأسباب – على أحسن وجه وأفضل بكثير من أدائنا له.

الشعور بعدم التميز عند الله:

ومن صور التربية الربانية: أن يشعر الله – سبحانه وتعالى – الواحد منا بعدم تميزه عنده، أو أن له مكانة ليست لغيره.

فالتعرض للابتلاءات والنقص، والوقوع في الذنب، وعدم استجابة الدعاء، وحرمان الرزق، وقلة التوفيق يتنافي مع ما يظنه المُعجب بنفسه أنه من أولياء الله الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون …

تأمل معي الرد القرآني على اليهود والنصارى عندما ظنوا أن لهم مكانة خاصة عند الله عز وجل: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [ المائدة: 18 ].

إخمال الذكر:

ومن صور التربية الربانية للعبد: إخمال ذكره، وإبعاده عن الأضواء، وفتنة الشهرة، وثناء الناس عليه.

قال الفضيل بن عياض: بلغني أن الله تعالى يقول للعبد في بعض منته التي من بها عليه: ألم أنعم عليك؟ ألم أعطك، ألم أسترك ؟ ألم أخمد ذكرك ؟

وفي الحديث القدسي قال تعالى ” إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر، وكان غامضًا في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، ثم نقر بيده صلى الله عليه وسلم فقال: عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه “[3].

( فإخفاء ذكر العبد المؤمن – كما يقول ابن رجب – من أعظم نعم الله عليه، فهو يعيش به مع ربه عيشًا طيبًا، ويحجبه عن خلقه حتى لا يفسدوا عليه حاله مع ربه، فهذه هي الغنيمة الباردة، فمن عرف قدرها وشكر عليها فقد تمت عليه النعمة ..

وكان الإمام أحمد يقول: طوبى لمن أخمل الله ذكره.

ولما اشتهر ذكره – رحمه الله – اشتد غمه وحزنه، وكثر لزومه لمنزله، وقل خروجه في الجنائز وغيرها، خشية اجتماع الناس عليه )[4].

استصغار العمل ونسيانه:

ومن صور التربية الربانية: أن يقلل الله عز وجل حجم العمل الذي يقوم به العبد في عينه، ويشعره بأنه لم يأت بجديد.

أخرج الإمام أحمد في الزهد أن سليمان بن داود – عليهما السلام – خرج بالناس يستسقي، فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنَّا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك، فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا، فقال سليمان للناس: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم[5].

وفيه أيضًا أن داود عليه السلام قال: يا رب هل بات أحد من خلقك الليلة أطول ذكرًا مني؟ فأوحى الله عز وجل إليه: نعم الضفدع[6].

ومما يلحق بهذا اللون من التربية الربانية: نسيان العمل بعد أدائه، فمن دلائل رحمة الله بعبده أنه – سبحانه – ينسيه عمله الصالح بعد قيامه به، من خلال شغل ذهنه بأمور أخرى تملأ عليه فكره، وتنقله بعيدًا عن التفكير في عمله، فلا يجد أمامه مجالًا لاستحسانه والإعجاب به.

تأخر الإمداد:

ومن صور التربية الربانية: تأخر كشف الكرب عن العبد، ولهذا الأمر فوائد عظيمة منها: أنها تكشف للعبد حقيقة ضعفه وفقره الماس إلى الله عز وجل، وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ومنها كذلك: أنها تسقط كل الدعاوى الزائفة حول الأسباب أو المواهب التي يظن المرء أنها لديه، وأن بإمكانها أن تسعفه في أي وقت.

فالذي يدعو الله بكشف كربه عند اشتداد الريح وهو على ظهر سفينة، يختلف كثيرًا في تضرعه عمن يدعو الله وهو في البحر وقد تعلق بخشبة.

والذي يدعو الله بعد أن تركته تلك الخشبة سيكون – بلا شك – أكثر تضرعًا وانكسارًا منه في الحالتين السابقتين[7].

فمن فوائد البلايا ولطائف أسرارها – كما يقول ابن رجب -:

أنها توجب للعبد الرجوع إلى الله عز وجل، والوقوف ببابه، والتضرع والاستكانة له، وذلك من أعظم فوائد البلايا. وقد ذم سبحانه من لا يستكين له عند الشدائد ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المؤمنون: 76].

ومنها: أن البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى مخلوق، ويوجب له الإقبال على الخالق وحده … فالبلاء يجمع بين القلب وبين الله، والعافية تجمع بينك وبين نفسك.

فكلما اشتد الكرب وعظم الخطب كان الفرج حينئذ قريبًا .. لماذا؟! لأن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهي وجد الإياس من كشفه من جهة المخلوق، ووقع التعلق بالخالق وحده، ومن انقطع عن التعلق بالخلائق، وتعلق بالخالق استجاب الله له، وكشف عنه.

ومنها: أن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه، ولا سيما بعد كثرة دعائه وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة: رجع إلى نفسه باللائمة ويقول لها: إنما أوتيتُ من قِبَلِك، ولو كان فيكِ خير لأجبت .. وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه، فلذلك يسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر.

فمن تحقق بهذا وشاهده بقلبه، علم أن نعم الله على عبده المؤمن بالبلاء أعظم من نعمه عليه في الرخاء[8].

مواقف عملية للتربية الربانية:

هناك العديد من المواقف العملية لهذه التربية الربانية والتي من شأنها أن تعرف العبد بنفسه وتضعه في حجمه الصحيح، وأنه لا يملك من الأمر شيئًا، وتعرفه كذلك بربه، وبأن مقاليد الأمور كلها في يديه، وأنه لا غنى عنه طرفة عين.

ومن هذه المواقف ما حدث لبعض عباد الله المصطفين مثل ما حدث لرسوله الحبيب صلى الله عليه وسلم عندما جاءه من يسأله عن أشياء لا يخبر عنها إلا نبي، وهي خبر أهل الكهف، وذي القرنين، وماهية الروح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” أخبركم غدًا عما سألتم عنه ” ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدًا، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها، لا يخبرنا بشيء عما سألناه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف[9] وكان فيها التوجيه الرباني: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: 23،24 ].

مع الأنبياء عليهم السلام:

وفي قصة موسى عليه السلام والخضر تربية ربانية كذلك:

أخرج البخاري في صحيحه عن أُبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لى عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك …. ” الحديث. فكان في صحبة موسى – عليه السلام – للخضر الكثير والكثير من المواقف والدورس التربوية لموسى عليه السلام.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله فقيل له: قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان … “.

وخرج داود – عليه السلام – إلى الساحل: فعبد ربه سنة، فلما تمت السنة قال: يا رب، قد انحنى ظهري وكلَّت عيناي، ونفدت الدموع، فلا أدري إلى ماذا يصير أمري، فأوحى الله عز وجل إلى ضفدع أن أجب داود – عليه السلام – فقال الضفدع: يا نبي الله أتمن على ربك في عبادة سنة؟ والذي بعثك بالحق نبيًا، إني على ظهر بردية منذ ثلاثين – أو ستين – أسبحه وأحمده، وإن فرائصي ترعد من مخافة ربي، فبكى داود عليه السلام – عند ذلك[10].

وروى ابن عيينة أن أيوب – عليه السلام – قال: إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء، وما ورد عليّ أمر إلا آثرت هواك على هواي، فنودي من غمامة بعشرة آلاف صوت: يا أيوب أنَّى لك هذا؟ ( أي من أين لك هذا؟ ) قال: فأخذ رمادًا ووضعه على رأسه، وقال: منك يا رب، منك يا رب[11].

وخلاصة القول: أن أمر صلاحنا وشفائنا مما تلبس بنا من استعظام لأنفسنا إنما هو بيد الله عز وجل، وما علينا إلا أن نصدق معه سبحانه في طلبنا العلاج منه، ونترجم هذا الطلب بكثرة الدعاء والتضرع والإلحاح عليه بأن يدخلنا في رحمته ومعيته، وأن يصلح لنا شأننا كله، وأن يتولانا فيمن تولى، ويهدينا فيمن هدى، ويعافينا فيمن عافى، وأن يؤتي نفوسنا تقواها، وأن يقينا شرها، إنه ولى ذلك والقادر عليه.


[1] سيتم – بعون الله ومشيئته – بيان هذا الأمر بشيء من التفصيل في مقال: معرفة حقيقة الإنسان .

[2] أدب الدنيا والدين ص 82 .

[3] أخرجه الإمام أحمد (5/255، رقم 22251) والترمذي (4/575، رقم 2347) والحاكم (4/137، رقم 7148). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع الصغير ( 1397).

[4] مجموعة رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي – شرح حديث: إن اغبط أوليائي عندة ص 755 – 757 – الفاروق الحديثة – القاهرة .

[5] الزهد للإمام أحمد ص 87 – دار الكتب العلمية – بيروت .

[6] المصدر السابق ص 69 .

[7] المدخل لابن الحاج بتصرف .

[8] نور الاقتباس ص 209 في مكشاة وصية النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس لابن رجب ص 209 – الجامع المنتخب لمجموع رسائل ابن رجب – دار المؤيد – جدة .

[9] أخرجه ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس 3/ 68، 69 .

[10] تنبيه الغافلين للسمرقندي ص 381 .

[11] إحياء علوم الدين 3 / 578 .