تزكية النفس

معرفة الله عز وجل ودورها في علاج العُجب

أهمية معرفة الله:

لمعرفة الله عز وجل دور كبير في إخضاع القلب له سبحانه، والتجلبب بجلباب العبودية من ذل وانكسار وخشية وافتقار، وكذلك رؤية النفس على حقيقتها ومدى ضعفها وعجزها وحاجتها إلى مولاها.

وبقدر المعرفة تكون العبودية:

فعلى سبيل المثال عندما يتعرف الواحد منا على شخص ما معرفة عامة، فإن نظرته له ستكون نظرة عادية مثله مثل غيره لا تلفت انتباهه، فإذا اقترب منه وازدادت معلوماته عنه، وعن قدراته، وخبراته وشهاداته، أو المنصب الذي يتولاه فإن هذا من شأنه أن يزيده احترامًا وهيبة وتقديرًا لهذا الشخص، مما ينعكس على طريقة تعامله معه، والتي – بلا شك – ستختلف كثيرًا عما كانت عليه من قبل.

إذن فنحن نحتاج لمعرفة الله عز وجل لتزداد خشيتنا له، وخوفنا منه، ورجاؤنا فيه، وتوكلنا عليه وغير ذلك من ألوان العبودية.

سأل موسى – عليه السلام – ربه: يا رب أي عبادك أخشى لك ؟ قال: أعلمهم بي[1].

الله عز وجل أخبرنا بأنه ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾ [ الأنعام: 103 ].

وأنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [ الشورى: 11 ].

وأنه ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [ طه: 110 ].

فما السبيل إذن إلى معرفته؟

… نعم لا يعرف الله إلا الله – سبحانه وتعالى – كما قال صلى الله عليه وسلم: ” لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك “. ومع ذلك فقد أتاح لنا – سبحانه – جزءًا من المعلومات عنه بدرجة تتحملها عقولنا من خلال ما أخبرنا به من أسمائه وصفاته، والتي أودع مظاهرها وآثارها في مخلوقاته، وبقدر تتبع هذه الآثار وربطها بأسمائه وصفاته تكون المعرفة.

فالقاعدة تقول (من آثارهم تعرفونهم) فعندما يصف الناس شخصًا ما بأنه محسن – مثلًا – فإن هذا الوصف لن يقع موقعه في نفسك إلا إذا رأيت آثار إحسانه .. وكلما تتبعت تلك الآثار وشاهدتها بنفسك يزداد يقينك بصحة وصفه بهذا الوصف.

.. ولله المثل الأعلى ..

فالله عز وجل لا نستطيع أن نراه في الدنيا، ولكنه سبحانه وتعالى خلق هذا الكون كله وجعله يدل عليه، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [ فصلت: 53 ] وأخبرنا سبحانه وتعالى بأن له أسماء وصفات أودع آثارها في كونه ومخلوقاته.

إذن فالطريقة السهلة لمعرفة الله عز وجل: أن نتعرف على آثار أسمائه وصفاته قال تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [ الذاريات: 20، 21 ] وعلى قدر التتبع والتفكر في هذه الصفات تزداد المعلومات عن الله عز وجل، فينعكس ذلك على القلب بزيادة جوانب العبودية فيه .

وسائل المعرفة:

للتعرف على أسماء الله وصفاته وسيلتان أساسيتان أتاحهما لنا الله عز وجل وأمرنا بدوام التفكر فيهما، وهما: كتاب الله المقروء (القرآن)، وكتاب الله المنظور (الكون).

أما القرآن فمن أهم سماته أنه كتاب تعريف بالله عز وجل، من خلال دلالته على أسماء الله وصفاته، ووصفه لها وعرضه لآثارها في الكون والنفس، ليسهل على العبد نقل فكره إلى الكون ليشاهد بنفسه ما تعلمه من القرآن، فيربط بذلك أحداث الحياة كلها بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته، ويتقلب قلبه في ألوان من العبودية نتيجة تقلب الأحداث به فيستقبل النعمة بالشكر، والمصائب بالصبر والرضا, والقهر بالانكسار والاستسلام، والشدائد بالدعاء والتضرع.

وفى هذا المقال سيتم إلقاء الضوء – بعون الله وفضله – على أهم جوانب المعرفة التي تفيدنا في إزالة أصنامنا، وهي:

1 – التعرف على الله الغني الحميد.

2 – التعرف على الله القيوم.

3 – التعرف على الله المنعم.

1 – التعرف على الله الغني الحميد

من صور الجهل بالله أن يستعظم العبد طاعته، ويظن أن له يدًا على الإسلام بصلاته أو جهاده أو دعوته …

من هنا تأتي أهمية التعرف على صفة استغناء الله عن عباده والتي من خلالها تترسخ لدينا حقيقة أن الله غني عنا وعن عبادتنا ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [ إبراهيم 8 ].

فالله عز وجل لا تنفعه طاعتنا مهما بلغت، ولا تضره معصيتنا مهما عظمت، ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ياعبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيء )[2].

إن صلاحنا وجهادنا وكل ما نقدمه من طاعات لا ينفع الله بشيء، وإنما هو لنفعنا ومصلحتنا ﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [ العنكوبت: 6 ].

فإن أحسنا فلأنفسنا، وإن أسأنا فعليها ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ [ محمد: 38 ] .

وماذا عن حجم طاعتك:

لينظر كل منا إلى حجم الطاعة التي يؤديها .. هل يظل طيلة الليل في صلاة، هل لسانه لا يفتر عن ذكر الله؟ إننا وإن فعلنا ذلك، فلا نسبة لهذه الطاعة مع عبادة المخلوقات الأخرى لله عز وجل.

﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [ الأنبياء: 19، 20 ].

فكيف إذن نرى أعمالنا القليلة بعين التعظيم، والله عز وجل يقول: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: 44].

تخيل أنك قد عزمت على التبكير لصلاة الجمعة، وخرجت من منزلك في الثامنة صباحًا – مثلًا – وفي طريقك للمسجد اعتقدت بأنك ستكون أول الداخلين إليه، وظل الشعور بالزهو يتملكك، فإذا بك تدخل المسجد فلا تكاد تجد موضعًا لقدمك .. ماذا سيكون شعورك آنذاك؟! وهل سيستمر زهوك وإعجابك بنفسك أم ستستصغر فعلك ؟!

وهذا هو الدور العظيم الذي تحدثه معرفة الله الغني الحميد .. فعندما تكثر من التسبيح، وتظن أنك فعلت شيئًا غير مسبوق يأتيك القرآن ليقول لك: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الجمعة: 1 ].

وعندما يشعر المرء بتعبه من ركيعات يركعها لله، ويخالجه شعور بالرغبة في التخفيف من هذه العبادة يأتيه قوله تعالى: ﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ [ فصلت: 38 ].

… إن شعور الواحد منا باستغناء الله عن عبادته، وعدم منفعته بها له دور كبير في محو أي خاطرة مَنّ أو إدلال على الله عز وجل بما يقوم به من أعمال …

وكذلك فإن التعرف على عبودية الكون لله عز وجل من شأنها أن تجعلنا نضع رأسنا في التراب حياء من الله، وخجلًا من حجم طاعتنا اليسيرة التي لا تكاد تساوي شيئًا بجوار عبادة أصغر مخلوق له سبحانه.

فلنعمل على التعرف على الله الغني الحميد من خلال القرآن، ومن خلال الكون المحيط ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ [ النحل: 48 ].

يقول أحد الصالحين: ما أصغى إلى صوت حيوان، ولا حفيف شجر، ولا خرير ماء، ولا ترنم طائر، ولا قعقعة رعد إلا أجدني مرددًا ﴿ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾ [ النور: 41 ].

ويهتف حمدًا جمال الصباح

وسحر الربيع الشهي العطر

وسحر السماء الشجي الوديع

وهمس النسيم ولحن المطر

تسبحه نغمات الطيور

يسبحه الظل تحت الشجر

يسبحه النبع بين المروج

يسبحه دومًا أريج الزهر

يسبحه النور بين الغصون

وسحر السماء وضوء القمر[3]

يتبع بمشيئة الله ،،،


[1] الزهد لابن المبارك ص 75 .

[2] أخرجه الإمام مسلم (4/1994 ، رقم 2577) عن أبي ذر .

[3] موارد الظمآن في محبة الرحمن لسيد بن حسين العفاني ص 86 – مكتبة التابعين – القاهرة .