تزكية النفس

تابع معرفة حقيقة الإنسان وطبيعة النفس 3

1 – سوء الظن بالنفس:

فعلينا ألا نركن لأنفسنا أو نحسن الظن بها، فهي لن تأمرنا بخير، ولتأكيد هذا المعنى: علينا بتتبع خواطر النفس وحديثها لنا بتضييع أو تأخير القيام بحق من الحقوق، وكذلك ارتكاب معصية من المعاصي.. فلهذا الأمر دور كبير في معرفة النفس ودوام الحذر منها.

ألا تذكر كم من مرة حدثتك نفسك بعدم الاستيقاظ لصلاة الفجر طلبًا للراحة؟

وألا تذكر كذلك كم من مرة جعلتك نفسك تطلق بصرك فيما حرم عليك؟!

.. ومن الأمور المعينة على دوام الحذر من النفس: تتبع هذا الموضع في القرآن لنرى كيف فعلت النفس بمن سبقنا كإخوة يوسف، وامرأة العزيز، والسامري، وثمود، وفرعون..

2 – الخوف من الله:

كما أن للنفس قابلية للفجور والطغيان، فلها كذلك قابلية للسكون والحذر كما قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 7، 8].

والنفس – كما يقول الآجري-: إذا أطعمت طمعت، وإذا آيستها أيست. وإذا أقنعتها قنعت، وإذا أرخيت لها طغت. وإذا فوضت لها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت[1].

وأفضل لجام تساق به النفس: لجام الخوف من الله عز وجل: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهي النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41].

ووسائل استجلاب الخوف من الله كثيرة يقف على رأسها كثرة ذكر الموت، وتذكر الآخرة وزيارة المقابرة، وكتابة الوصية، وشراء الكفن، والاستماع إلى المواعظ، والقراءة في كتب الرقائق.

3 – مقاومة خواطر العُجب:

ستظل النفس – أي نفس – تلح على صاحبها بحمدها والإعجاب بها عند كل موقف إيجابى يقوم به، أو كلمة طيبة تخرج من فمه.. فعلينا أن لا نسترسل مع تلك الخواطر، وأن نقاومها غاية جهدنا، وألا نسكن إليها لما في ذلك من خطورة..

ومما يعين على هذه المقاومة تذكيرها بعواقب العُجب من مقت الله وغضبه وإحباطه للعمل.

قال السري: لو أن رجلًا دخل بستانًا فيه من جميع خلق الله من الأشجار والأطيار، فخاطبه كل طائر بلغته، وقال: السلام عليكم يا ولي الله فسكنت نفسه إلى ذلك، كان في أيديها أسيرًا[2].

ومن الوسائل المعينة على ذلك أيضًا: الإنفاق مما نحب من مال وغيره كلما ضعفنا أمام إلحاحها.

4 – محاسبة النفس:

لمحاسبة النفس مجالات كثيرة، تشمل كل ما أمرنا الله به أو نهانا عنه، والذي يعنينا في موضوع علاج العُجب: محاسبة النفس على الوفاء بحق الله كعلاج أكيد للتخلص من هذا الداء.

يقول ابن القيم: ومما ينفى عن العبد العُجب ورؤية عمله: النظر في حق مولاه عليه أولًا، ثم نظره: هل قام به كما ينبغي ثانيًا.

فمن عرف الله وحقه وما ينبغي لعظمته من العبودية: تلاشت حسناته عنده، وصغرت جدًا في عينه، وعلم أنها ليست مما ينجو بها من عذابه، وأن الذي يليق بعزته ويصلح له من العبودية أمر آخر[3].

تأمل حال موسى عليه السلام وقد نظر إلى حق ربه أولًا قبل أن ينظر إلى عمله، فقال: يارب كيف لي أن أشكرك، وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك، لا يجازي بها عملي كله، فأتاه الوحي: يا موسى الآن شكرتني[4].

والذي يعين على هذه المحاسبة هو التفكر في النعم، والعمل على إحصائها – كما سبق بيانه -، ومن أهم جوانب النعم الذي ينبغي التفكر فيها عند القيام بهذه المحاسبة: نِعم الاجتباء وسبق الفضل من الله عز وجل للعبد.

5 – دوام التوبة:

التوبة هي النتيجة الطبيعية للمحاسبة الناجحة، التي نظر صاحبها إلى حق الله وعدم قدرته على الوفاء به، فيهرع إلى مولاه يطلب منه المسامحة والعفو.. وكلما ازددنا معرفة بحقه سبحانه، وشهدنا تقصيرنا في أدائه، عظمت توبتنا، واشتد خوفنا وازدراؤنا لأنفسنا.

وهذا ما يوضح سبب خوف الصحابة والسلف الشديد مع شدة اجتهادهم.

فهذا أبو بكر الصديق يقول: ليتني خضرة تأكلني الدواب[5].

وهذا ابن عباس يقول لعمر بن الخطاب: مصر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفعل وفعل، فقال عمر: وددت أني أنجو، ولا أجر ولا وزر.

وقال عثمان بن عفان: لو أنني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رمادًا، قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.

وقال رجل عند عبد الله بن مسعود: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقربين أحب إليّ، فقال عبد الله: لكن ههنا رجل ودَّ أنه إذا مات لم يُبعث.. يعني نفسه[6].

الخلاصة: .. من هنا يتضح لنا أن من أهم وسائل استصغار النفس ورؤية العمل بعين النقص: معرفة الله ومعرفة النفس.

يقول ابن القيم: من تمكن من قلبه شهود الأسماء والصفات، وصَفا له علمه وحاله، اندرج عمله جميعه، وأضعاف أضعافه في حق ربه تعالى، ورآه في جنب حقه أقل من خردلة بالنسبة إلى جبال الدنيا، فيسقط من قلبه اقتضاء حظه من المجازاة عليه لاحتقاره له، وقلته عنده، وصغره في عينه[7].

ويلخص الدبوسي أهمية معرفة الله، ومعرفة النفس فلا علاج العُجب فيقول: والنجاة من العُجب عزيزة، فالنفس مدعية للملك والإمرة والإحسان والقدرة.. ما ترجع إلا بالرجوع إلى معرفة عجزها وافتقارها، وبالوقوف على أسرارها، ومعرفة قدرة خالقها ومنتّه عليها في جميع طرائقها..

قل وردد: بالله أستعين، وبه أعوذ، وإياه أستهدي، وإليه ألوذ, تبارك من مقدر لا يتحرك العبد ولا يسكن ولا يتكلم ولا يسكت إلا بنعمة من الله جديدة مضمومة إلى منة قديمة.. فلله الحمد سرمدًا، والشكر متواليًا أبدًا[8].

[1] أدب النفوس ص 25، 26 باختصار.

[2] العجب لعمر بن موسى الحافظ ص 75 نقلًا عن تلبيس إبليس.

[3] تهذيب مدراج السالكين.

[4] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم ص 201.

[5] الداء والدواء لابن القيم ص 80.

[6] حياة الصحابة 2/ 372.

[7] مدارج السالكين.

[8] الأمد الأقصى ص 156.