خواطر قرآنية

تدبرات حول سورة يونس

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين .

وبعد …

بعد تلاوة السورة وتدبرها بصورة عامة :

كأن السورة الكريمة تتكلم عن القرآن والوحي والرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم وعن مقابلة المشركين للرسالة وتكذيبهم .

كما تتكلم عن آثار الله في الكون وعظمته سبحانه وفضله على عباده ، فهو الودود المتودد إلى عباده بسائر النعم القيوم القائم على شؤون العباد (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) .

فهو سبحانه أحق أن يعبد لا غيره ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).

والسورة الكريمة تناقش المعاندين والكافرين ثم تعرض نعم الله وآلاءه على خلقه بعد كل نقاش عن العقيدة والإسلام لعلهم بذكر النعم يعترفون ، وإلى طريق الله يعودون .

يتم هذا العرض بصورة تذوب لها النفس حياء من كثرة النعم والتفضل وما يقابله ذلك من الإعراض وقلة الاكتراث ومن ثم عدم الإيمان .

  • إن اللفتات التي وردت في السورة عن الفضل والجزاء العظيم للمؤمنين قد لا تجد له مثيلا في سورة أخرى بهذا الطعم وذاك الأسلوب :الآيات / 9- 10 – 26 – 62 -63 -64 -98 -103
  • إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
  • لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .
  • ألَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .
  • فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين) .
  • ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).
  • إن المؤمن ليعتبر نعمة الإيمان والقرآن ورسالة الإسلام هي أعظم نعمة وأشرف منة تفضل الله بها على العباد .
  • والمؤمنون يفرحون بهذه النعمة ويعدونها خيرا من كل متاع مادي زائل فهي التي نقلتهم من سفح الجاهلية ووهدة الانحطاط إلى قمة الإيمان وكرامة الإنسان .
  • وتأتي آيةعجيبة عن المراقبة الشاملة المحيطة من الله سبحانه لعباده وأعمالهم ترتجف لها كل ذرة في كيان الإنسان :
  • وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) .

هذه الآية التي تمثل بها أولياء الله فنالهم عظيم الجزاء والتكريم .

  • وآيات السورة الكريمة تبين الحق وتجليه وتثبته بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة :

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ).

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) .

وبعد أن جلت السورة الحق وصار واضحا ولا سبيل إلى نكرانه يأتي في نهاية السورة الكريمة : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيل).

وليس الرسول موكلاً بالناس يسوقهم إلى الهدى سوقاً ، ويحملهم على الإيمان قسرا ، إنما هو مبلغ ، وهم موكولون إلى إرادتهم وإلى اختيارهم فإن آمنوا فذلك ما يريده الله لهم وإن كفروا فذلك ما يريدونه لأنفسهم .

وماذا يفعل الرسول إذا لم يؤمنوا ؟ .

وماذا يفعل المؤمن إذا لم يتبع الناس الحق ، واتخذوا طريق الغي سبيلا ؟ .

ماذا يفعل إذا قل المستجيبون وكثر المعاندون ؟ .

ماذا يفعل إذا زوقوا الباطل وشوهوا الحق ؟ .

يأتي الرد من القرآن :

(وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) .

اصبر عليهم وأمهلهم وأعطهم الفرص تلو الفرص ؛ لأن مراد الله أن يؤمن الناس ويدخلوا الجنة (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .

والرسول وأتباعه من المؤمنين يفهمون مراد الله فيصبرون ويتحملون حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .

وكان التعقيب على قصة نوح في سورة هود : ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ) .

وفي سورة القلم تعقيبا على قصة يونس : ( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت ) .

ومن أجل هذا التحمل وهذا الصبر كان الرسل وأتباعهم من الدعاة هم ذؤابة البشرية وذروتها ؛ لأن الله يحقق بهم مراده في دنيا الناس ولأنهم يعرفون الله ويحبونه ويعبدونه ولأنهم يريدون النجاة للناس أجمعين .

فإن قيل وما الحكمة في أن حملت السورة الكريمة هذا الاسم ؟ .

قد يكون – والله أعلم – إغراء لقريش وغيرها من المشركين كي يؤمنوا لصيبهم ما أصاب قوم يونس من الخير في الدنيا معجلا وما وعدوا من رضا الله والجنة مؤجلا :

(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) .

والحمد لله أولا وآخرا .