إنالهدف الأساسي من التحدث عن ثمار الإيمان ومدى ظُهورها في جيل الصحابة رضوان الله عليهم هو استثارة مشاعر الاحتياج نحو التربية الإيمانية،وتقوية العزيمة لسلوك طريقها بإذن الله ..
ولقد تم اختيار عشر ثمار ليتم الحديث عنها – بعون الله – هي بإجمال:
أولًا: المُبادرة والمُسارعة لفعل الخير.
ثانيًا: تقوية الوازع الداخلي.
ثالثًا: الزهد في الدنيا.
رابعًا: التأييد الإلهي.
خامسًا: إيقاظ القوى الخفية.
سادسًا: الرغبة في الله.
سابعًا: اختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكلات بين الأفراد.
ثامنًا: التأثير الإيجابي في الناس.
تاسعًا: اتخاذ القرارات الصعبة.
عاشرًا: الشعور بالسكينة والطمأنينة.
والجدير بالذكر أن هذه الثمار العشر ما هي إلا قطوف يسيرة من شجرة الإيمان المباركة، ولقد تم اختيارها كباقة متنوعة، فمنها ما يتعلق بعلاقة المؤمن بربه، ومنها ما ينعكس على علاقته بدنياه وآخرته، ومنها ما يظهر آثاره على تعاملاته مع الآخرين.
وإليك – أخي القارئ – بعضًا من التفاصيل حول هذه الثمار العشر:
أولًا: المبادرة والمسارعةإلى فعل الخير:
منأهم ثمار الإيمان الحي أنك تجد صاحبه مبادرًا ومسارعًا لفعل الخير ، يتحرك في الحياة وكأنه قد رُفعت له راية من بعيد فهو يسعى جاهدًا للوصول إليهامهما كلفه ذلك من بذل وتعب وتضحية.. تراه دومًا يبحث عن أي باب يقربه منرضا ربه والتعرض لرحمته ليندفع إليه مرددًا بلسان حاله: «لبيك اللهملبيك.. لبيك وسعديك».
ولقد قرر القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون/57-61].
فالآيات تُعطي دلالات واضحة على أن أصحاب القلوب المؤمنة الخاشعة لربها هم أكثر الناس مسارعة للخيرات وأسبقهم إليها .
وإليك – أخي القارئ – بعض الأمثلة من حياة الصحابة – رضوان الله عليهم – والتي تؤكد هذا المعنى :
– خرج جابر بن عبد الله رضي الله عنه ذات سنة إلى بلاد الروم غازيًا في سبيل الله ، وكان الجيش بقيادة مالك بن عبد الله الخثعمي ، وكان مالك يطوف بجنوده وهم منطلقون ليقف على أحوالهم ، ويشُد من أزرهم ، ويُولِي كبارهم ما يستحقونه من عناية ورعاية ، فمر بجابر بن عبد الله ، فوجده ماشيًا ومعه بَغل له يمسك بزمامه ويقوده ، فقال له : ما بك يا أبا عبد الله ، لم لا تركب ، وقد يسر الله لك ظهرًا يحملك عليه ؟ ! فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من أُغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار» .
فتركه مالك ومضى حتى غدَا في مقدمة الجيش ، ثم التفت إليه ، وناداه بأعلى صوته ، وقال : يا أبا عبد الله ، مالك لا تركب بغلك ، وهي في حوزتك ؟! فعرف جابر قصده ، وأجابه بصوت عال وقال : لقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من أُغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار » ، فتواثب الناس عن دوابهم وكلٌ منهم يريد أن يفوز بهذا الأجر ، فما رُئِي جيش أكثر مشاة من ذلك الجيش[1] .
وروى النسائي عن أبي سعيد بن المُعَلَّى أنه قال :
كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمررنا يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر ، فقلت : لقد حدث أمر ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة/144] ، حتى فرغ من الآية ، فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى ( في اتجاه الكعبة ) فتوارينا فصليناهما ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بالناس الظهر يومئذ [2].
– وفي يوم من الأيام قََدِمتْ قافلة لعبد الرحمن بن عوف بها سبعمائة راحلة تحمل المتاع ، فلما دخلت المدينة ارتجت الأرض بها ، فقالت عائشة : ما هذه الرّجة ؟ فقيل لها : عِير لعبد الرحمن بن عوف .. سبعمائة ناقة تحمل البُر والدقيق والطعام ، فقالت عائشة : بارك الله فيما أعطاه في الدنيا ، ولثواب الآخرة أعظم .
وقبل أن تبرك النوق كان الخبر قد وصل لعبد الرحمن بن عوف : فذهب إليها مُسرعًا ، وقال: أشهدك يا أُمَّه أن هذه العير جميعها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله .
التنافس في الخير :
صاحبالإيمان الحي لا يُريد أن يسبقه أحد إلى الوصول للراية العُظمى .. رايةرضا الله والتعرض لرحمته ومغفرته ودخول جنته ، لذلك تراه حزينًا حين تتحينأمامه فرصة للاقتراب من تلك الراية ولا يستطيع اغتنامها لأسباب خارجة عنإرادته كالمرض أو الفقر ، ولنا في قصة البَكَّائين خير مثال على ذلك :
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين (غزوة تبوك)، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن معقل المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا . فقال: « والله ما أجد ما أحملكم عليه »، فتولَّوا ولهم بكاء، وعَزَّ عليهم أن يُحبَسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملًا . فأنزل الله عذرهم: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة/92] [3] .
– وفي الصحيحين أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدُّثور (الأموال الكثيرة) بالدرجات العُلى والنعيم المقيم ، فقال صلى الله عليه وسلم : «وما ذاك؟»، فقالوا : يُصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أفلا أُعلمكم شيئًا تُدرِكون به من سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم ، إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟»، قالوا: بلى يا رسول الله ، قال: « تُسبِّحون ، وتحمدون ، وتُكبِّرون ، دُبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة » ، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»[4].
شدة الحرص على دعوة الخلق إلى الله:
كلما ازداد الإيمان وشعر المرء بحلاوته كلما ازدادت رغبته في دعوة الناس جميعًا إلى الله، وإلى التحرر من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، وكيف لا وهو يرى غيره من الضالين في سجن كان هو فيه وحرَّره الله منه، لذلك فهو لا يهدأ ولا يقر حتى يُبلِّغ الدعوة إليهم ما وسعه الجهد والوقت والمال.
ويدفعه لأداء هذا الواجب كذلك علمه بأن الدعوة إلى الله من أحب الأعمال إليه سبحانه ..
.. من هنا نُدرك كيف اشتد حرص الصحابة على دعوة الخلق إلى الله.
فهذا أبو بكر الصديق بعد إسلامه يُسارع بالدعوة إلى الله من وَثق به من قومه فأسلم على يديه : الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عُبيد الله ، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف[5].
وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انصرف عن ثقيف اتَّبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة ، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنهم قاتلوك »، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أَحَب إليهم من أبكارهم، وكان فيهم كذلك مُحببًا مطاعًا.
فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه بمنزلته فيهم ، فلما أشرف على عُلَّية(مكان مرتفع) – وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه – رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله ، فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ[6] ..
*********
ثانيا: تقوية الوازع الداخلي
كلما قوِي الإيمان، ازدادت حساسية الفرد تجاه الوقوع أو مجرد الاقتراب من الشبهات والمحظورات، والعكس صحيح، فكلما ضَعُف الإيمان نقصت تلك الحساسية.. يقول عبد الله بن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مَرَّ على أنفه، فقال به هكذا [7] ( أي : نحَّاه بيده أو دفعه ).
معنى ذلك أن درجة إيمان الفرد يعكسها شعوره وحساسيته تجاه الذنوب، وفي أي الاتجاهين تكون..
.. هل تقترب من حال من يقعد تحت صخور جبل مهدد بالانهيار في أي لحظة، أم من حال من تمر ذبابة على أنفه؟
من هنا نقول بأن الإيمان الحي هو الذي يضبط سلوك الإنسان، ( ويترك مع كل نفس رقيبًا لا يغفل، وحارسًا لا يسهو، وشاهدًا لا يُجامل ولا يحابي ، ولا يضل ولا ينسى… يصاحبها في الغدوة والروحة ، والمجتمع والخلوة، ويرقُبها في كل زمان، ويلحظها في كل مكان، ويدفعها إلى الخيرات دفعًا، ويدعُّها عن المآثم دعًّا، ويجنبها طريق الزلل، ويبصرها سبيل الخير والشر) [8].
.. في يوم من الأيام ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الخيل وأنها لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر.
فسئل عن الحُمُر؟ قال: «ما أنزل الله عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾[الزلزلة/7، 8] [9].
فعندما يزداد الإيمان بأن هناك حساب على اليسير من العمل – ولو كان مثقال ذرة كما تُشير الآيات – فإن ذلك من شأنه أن يدفع المرء للتحرك بحساسية وحذر شديدين تجاه التعامل مع جميع الأشياء .
.. نعم، هذا هو أهم قانون لضبط السلوك ومهما وُضِعت القوانين الصارمة فيالمجتمعات لضبط سلوك الأفراد فلن تؤتي ثمارها إلا إذا بُدئ بإصلاح الإيمانفي القلوب لتكون من ثمرته: تقوية الوازع الداخلي … وصدق من قال:
لا تنتهي الأنفس عن غيّها … ما لم يكن لها من نفسها دافع
.. جاء رجل فقعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يَكذِبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم ، فكيف أنا فيهم؟!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا كان يوم القيامة يُحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم.. اقتُص لهم منك الفضل، فتنحى الرجل، وجعل يهتف ويبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :» أما تقرأ قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء/47] .
فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئًا خيرًا من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلهم أحرار [10].
شدة الورع:
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان لأبي بكر غلام يُخرج له الخراج ، وكان أبو بكر يُخرج من خراجه فجاء يومًا بشيء ووافق من أبي بكر جوعًا، فأكل منه لقمة قبل أن يسأل عنه، فقال له الغلام : تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ ، قال : كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسن الكهانة ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه[11].. فماذا فعل أبو بكر عندئذ؟! فعل فعلا عجيبًا.. أدخل أصبعه في فمه فقاء كل شيء في بطنه..
وروى ابن جرير الطبري في تاريخه، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله ما عندنا، ولا يقاربه ، فقالوا : هل أخذت منه شيئًا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأنًا، فقالوا: من أنت؟، فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني: ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه ، فأتبعوه رجلًا حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس [12].
***********
ومن ثمار الإيمان:
ثالثًا: الزهد في الدنيا
من تعريفات الزهد: «انصراف الرغبة في الشيء مع وجوده »، ومثال ذلك: الطفل الذي يسعد سعادة غامرة حين يلعب بالدُمَى، ويحرص على اقتنائها، ويحلم بشراء الجديد منها، ولكن عندما يكبر هذا الطفل بضع سنين تجد حرصه وشغفه وفرحه بهذا اللعب يقل ويقل إلى أن يزول وتنصرف رغبته عنها فيصير زاهدًا فيها ولا يُبالى بوجودها إذا ما وُجدت ، ولا يحزن على ضياعها إذا ما فُقدت.
وحال الناس مع الدنيا – بدون الإيمان – كحال الأطفال مع لِعَبهم، ولكي يزهدوا فيها لابد من نمو الإيمان في قلوبهم.
فعندما يقوى الإيمان في القلب يقل تعلق صاحبه بالدنيا، ورغبته فيها، وحرصه عليها.
.. نعم، هو لن يتركها ببدنه بل يتركها بقلبه ، فالزهد حالة شُعورية يعيشها المرء كانعكاس لنمو الإيمان الحقيقي في قلبه ، وهو لا يستلزم الفقر، ولا يتنافي مع الغنى.
.. الزاهد في الدنيا لا ينشغل بها كثيرًا إذا ما وُجدت بين يديه ، فعلى سبيل المثال : قد يتوفر لديه العديد من الملابس ، فإذا ما أراد الخروج من منزله فإنه لا يقف أمامها طويلًا إنما يرتدي ما امتدت إليه يده ، وهو حين يفعل ذلك يفعله بتلقائية تعكس حالة قلبه الإيمانية .
وكلما قوى الإيمان أكثر وأكثر ازداد تعلق صاحبه بالآخرة ورغبته فيها ، وازداد زهده في الدنيا بصورة أشد وأشد لدرجة أنه لا يترك لنفسه إلا أقل القليل منها وبما يُحقق له ضروريات الحياة، وليس هذا بسبب معارضته لمبدأ التمتع بمُباحات الدنيا، ولكن لأن إيمانه يأبى عليه ذلك ويدفعه لاستثمار كل ما يأتيه في حياته لداره الآخرة متمثلًا قول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾ [القصص/77] ، لذلك فهو يحتاج دومًا إلى من يذكره بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص/77] .
وكيف لا، وإيمانه يأبي عليه أن يتوسع في هذا النصيب.
هكذا كانوا:
بهذه المستويات الإيمانية تعامل الصحابة – رضوان الله عليهم – مع الدنيا فكانت منهم أحوال عجيبة يستغرب منها أمثالي من ضعاف الإيمان الذين لا يزالون في مرحلة الطفولة واللهو بطين الأرض.
فهذا أبو الدرداء نزلت به جماعة من الأضياف في ليلة شديدة البرد فأرسل إليهم طعامًا ساخنًا، ولم يبعث إليهم بالأغطية فلما هموا بالنوم جعلوا يتشاورون في أمر اللُّحف، فقال واحد منهم: أنا أذهب إليه وأكلمه، فمضى حتى وقف على باب حجرته فرآه قد اضطجع وما عليه إلا ثوب خفيف لا يقي من حر ولا يَصُون من برد، فقال الرجل لأبي الدرداء: ما أراك بت إلا كما نبيت نحن !! أين متاعكم؟! فقال: لنا دار هناك نُرسل إليها تباعًا كل ما نحصلعليه من متاع ولو كنا قد استبقينا في هذه الدار شيئًا منه لبعثنا به إليكم، ثم إن في طريقنا الذي سنسلكه إلى تلك الدار عقبة كؤود المُخِفّ فيها خيرمن المُثقِل ، فأردنا أن نتخفف من أثقالنا علَّنا نجتاز[13].
وكان طلحة بن عبيد الله تاجرًا فجاءه ذات يوم مال من «حضرموت» مقداره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلته جزعًا محزونًا.
فدخلتْ عليه زوجته أم كلثوم، وقالت: ما بك يا أبا محمد؟!! لعله رابك منَّا شيء!!
فقال: لا، ولنِعْمَ حليلة الرجل المسلم أنت، ولكن تفكرت منذ الليلة وقلت: ما ظن رجل بربه إذا كان ينام وفي بيته هذا المال؟! ، قالت: وما يغمك منه؟! أين أنت من المحتاجين من قومك وأخلَّائك؟! فإذا أصبحت فقسمه بينهم، فقال: رحمك الله، إنك موفقة بنت موفق، فلما أصبح جعل المال في صُرَرٍ وجِفَان، وقسمه بين فقراء المهاجرين والأنصار [14].
.. وفي يوم من الأيام دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعض ممن يثق بهم من أهل «حِمص»، فقال لهم: اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسُدّ حاجاتهم ، فرفعوا إليه كتابًا فإذا فيه فلان وفلان، وسعيد بن عامر، فقال: ومن سعيد بن عامر؟! فقالوا: أميرنا. قال: أميركم فقير ؟! قالوا: نعم ، ووالله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار ، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صُرَّة وقال: اقرؤوا عليه السلام مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك.
جاء الوفد لسعيد بالصُرَّة فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يُبعدها عنه ويقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون» فهبَّت زوجته مذعورة وقالت: ما شأنك يا سعيد؟! أمات أمير المؤمنين؟! قال: بل أعظم من ذلك. قالت: أأُصيب المسلمون في واقعة؟! قال: بل أعظم من ذلك، قالت: وما أعظم من ذلك؟! قال: دخَلتْ عليَّ الدنيا لتُفسد آخرتي، ودخَلتْ الفتنة في بيتي. فقالت: تخلَّص منها، قال: أوتُعِينيني على ذلك؟ قالت: نعم. فأخذ الدنانير فجعلها في صُرَرٍ ثم وزعها [15].
.. وهذا خباب بن الأرت يدخل عليه بعض أصحابه وهو في مرض الموت فيقول لهم: إن في هذا المكان ثمانين ألف درهم، والله ما شدَدْتُ عليها رباطًا قط، ولا منعت منها سائلًا قط، ثم بكى، فقالوا: ما يبكيك؟! فقال أبكي لأن أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا شيئًا، وإني بقيت فنلت من هذا المال ما أخاف أن يكون ثوابًا لتلك الأعمال[16].
.. وهذا سعد ابن أبي وقاص يذهب إلى سلمان الفارسي يعوده فرآه يبكي، فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس.؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين، ما أبكي ضَنًّا على الدنيا، ولا كراهية في الآخرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه عهد إلينا عهدًا ما أراني إلا قد تعدَّيت ، قال: وما عَهِد إليك؟ قال: عَهِد إلينا أنه يكفي أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعدَّيت[17].. فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهما[18.
وللحديث بقية في الحلقة القادمة إن شاء الله…
[1] أُسد الغابة (1/307)، وتاريخ الإسلام للذهبي (3/143)، وسيرة ابن هشام (3/217 ، 218)، وحديث «من أُغبرت قدماه ..» أخرجه البخاري (1/308 ، رقم 865) ، وغيره . [2] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/168 – مكتبة العبيكان، وحديث القبلة أخرجه النسائي في السنن الكبرى – (ج 6 / ص 291، برقم 11002)، ومسند أحمد بن حنبل – (ج 4 / ص 408 ، برقم 19677) .
[3] الدر المنثور للسيوطي 3/479.
[4] متفق عليه: وهذا لفظ مسلم، وأخرجه البخاري (1/289 برقم 807)، ومسلم (2/97 ، برقم 1375) . [5] السيرة لابن كثير (1/437)، وذكره الحلبي في السيرة الحلبية (1/449). [6] السيرة النبوية لابن هشام (2/538)، وأُسد الغابة (1/768)، والاستيعاب لابن عبد البر (1/328)، والإصابة لابن حجر (4/493). [7] متفق عليه: البخاري (5/ 2324)، ومسلم (8/92). [8] رسالة هل نحن قوم عمليون؟ لحسن البنا ص (71) من مجموعة الرسائل. [9] أخرجه البخاري (2/835 ، رقم 2242). [10] حديث صحيح: أخرجه الترمذي (5/320 ، رقم 3165) وأحمد (6/280 ، رقم 26444)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/377 ، رقم 8586)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/280) . [11] أخرجه البخاري (3 / 1395 برقم 3629) . [12] نقل هذا الخبر سيد قطب في ظلال القرآن 1/505، نقلًا عن تاريخ الطبري (4/16). [13] الإصابة ج3 ترجمة (6117)، وأسد الغابة (4/159)، تاريخ الإسلام للذهبي (2/107). [14] طبقات ابن سعد (3/214)، وتهذيب التهذيب (5/20)، والإصابة (2/229) ترجمة (4266)، وحلية الأولياء ( 1/7) . [15] الإصابة ج2 ، ترجمة (3270)، وحلية الأولياء (1/244)، وتهذيب التهذيب (4/51)، وصفة الصفوة ( 1/372 ). [16] الإصابة، ج1، ترجمة (2210)، وأسد الغابة (1/316)، وحلية الأولياء (1/143)، وصفة الصفوة ( 1/168). [17] أخرجه أبو يعلى (8/80 ، رقم 4610)، والطبراني (4/77 ، رقم 3695)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/307 ، رقم 10400)، وأبو نعيم في الحلية (1/360). [18] أخرجه ابن حبان (2/481 ، رقم 706.