الإيمان والحياة

حقيقة الربانية

لكي يستطيع الناس ترتيب أمورهم في الحياة، فقد جعل الله عز وجل لها نظاما تقوم عليه، وقوانين تسير عليها، وجعل سبحانه هذا النظام يقوم على قانون السببية…..،

بمعني أن الحصول على النتائج يأتي من خلال استخدام أشياء- مادية أو معنوية- هذه الأشياء لا تُحدث بنفسها أية نتائج، ولكنها سبب وشكل وستار يتنزل عليه المدد الإلهي، فالماء جعله الله سببًا للإرواء، والطعام سببًا للشبع، والنوم سببًا للراحة..، ولكن بدون المدد الإلهي المتواصل فلا قيمة لهذه الأسباب، ويُجسّد هذا المعني بوضوح قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ` وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 14-15]،

وقول جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم: «بسم الله أرقيك والله يشفيك»([1]) .

مع الرسول صلى الله عليه وسلم

هذه الحقيقة كانت تهيمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أموره وأحواله، وكانت تصبغ كلماته وتوجيهاته لأصحابه ولأمته من بعده.

فكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: «اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل»([2]).

وكان يقول: «إنما أنا مبلغ والله يهدي، وإنما أنا قاسم، والله يُعطي»([3]).

ويقول: «ما أوتيكم من شيء، ولا أمنعكموه، إن أنا إلا خازن أضع حيث أُمرت»([4]).

وعندما قال له البعض: يا رسول الله غلا السِّعر، فَسَعِّر لنا، فقال: «إن الله تعالى الخالق، القابض، الباسط، الرزاق، الـمُسَعِّرُ..» ([5]).

مع الصحابة رضي الله عنهم

فإذا ما نظرنا لجيل الصحابة- رضوان الله عليهم- نجد أن هذا المعني كان حاضرا في حياتهم بشكل أساسي، فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلته المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين، ليرين الله ما أصنع»([6])

وعندما خرج عبد الله بن عتيك في سرية مع بعض الصحابة لقتل اليهودي
أبي رافع- سلام بن أبي الحقيق- في حصن خيبر، ودخل ابن عتيك الحصن، ووصل إلى أبي رافع وقتله، ثم عاد إلى أصحابه يبشرهم، ويحثهم على سرعة الخروج من المكان إذا به يقول لهم: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع([7]) .

وهذه زنيرة الرومية يعذبها أبو جهل وعمر بن الخطاب- قبل إسلامه- حتى فقدت بصرها، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى هما اللذان أذهبا بصرك، فماذا قالت له وهي في هذه الحال الصعبة التي قد تفتن أقوى الأنفس؟؟

قالت: «وما تدري اللات والعزي من يعبدها، ولكن هذا أمر من السماء، وربي قادر على أن يرد بصري» وبالفعل رد الله بصرها، فقالا: لقد سحرها محمد.

وهذه حفصة رضي الله عنها تقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «اللهم قتلاً في سبيلك ووفاة ببلد نبيك صلى الله عليه وسلم» قالت: فقلت: وأنَّي يكون هذا؟! قال: يأتي به الله إذا شاء([8]).

هل نترك الأسباب؟!

ليس معنى أن الله عز وجل هو الذي يبث الفاعلية في الأسباب، وأنها لا قيمة لها بدون إمداده أن نترك الأخذ بالأسباب، ونتجه مباشرة إلى الله عز وجل من أجل الحصول على النتائج، فهذا لا يجوز ولا يصح، لأنه- سبحانه- لو أراد منا ذلك ما خلق الأسباب، وما أمرنا بالأخذ بها، ولئن كانت الأسباب لا قيمة لها بدون الله، إلا أنها تُعد بمثابة الستار الذي يتنزل عليه أمر الله وقدره، وعلى المسلم أن يقيم هذا الستار بالقدر المتيسر والمتاح أمامه.

ومع أخذ المسلم بالأسباب، وإقامته لهذا الستار إلا أنه لا ينبغي عليه الركون إليها، أو الاعتماد عليها في حصول النتائج، وإلا تحول هذا الستار إلى جدار يحجبه عن الله.

انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يوجه صاحب الناقة إلى ربطها -كسبب لعدم شرودها- ويوجهه كذلك إلى التوكل على الله في إنجاح هذا السبب فقال له: «اعقلها وتوكل»([9]) .

وتأمل ما حدث للصحابة وقد نفد ماؤهم وأرادوا الوضوء والشرب فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بذلك.. فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟

طلب منهم إحضار ما تبقى عندهم من ماء، ثم وضع فيه أصابعه الشريفة، فنبع من بينها الماء ليشرب الجميع ويتوضأ([10]).

فهنا استنفد صلى الله عليه وسلم الأسباب الموجودة، وشكَّل الماءُ القليل «الستار» الذي تنزّل من خلاله المدد الإلهي.

فعلينا- إذن- أن نجتهد في الأخذ بالأسباب المتاحة أمامنا، مع يقيننا بأنها لا تفعل شيئاً بذاتها، فالفاعل هو الله، وإنما نأخذ بها لأننا مأمورون بذلك.

([1]) رواه مسلم.

([2]) صحيح، رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (4757).

([3]) صحيح، رواه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (2347).

([4]) صحيح، رواه الإمام أحمد أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5566).

([5]) صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (1846).

([6]) أخرجه البخاري.

([7]) السيرة النبوية لعلي الصلابي 2/418.

([8]) حياة الصحابة 1/388، 389.

([9]) حسن، رواه الترمذي عن أنس، وأورده الألباني في صحيح الجامع ح (1068).

([10]) حديث نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم رواه البخاري وغيره.