الكاتب: الدكتور سلمان العودة
يبدوا الإنسان مهمومًا بما سيقال بعد رحيله، ولعله لأجل ذلك يعتني العِلْيةُ من القوم بأضرحتهم حفرًا، كما عند
الفراعنة في أعماق الجبال، أو تشييدًا كما عندكثير من الأمم.
وهذا مما نهي عنه الإسلام، وأمر بتسوية القبور، وعدم رفعها أو تشريفها أو البناء عليها[i] .
والذكر الحسن هو من الحوافز القوية لدي الإنسان، وهو حافز فطري من حيث الأصل، فلا عتب فيه ، إلا إذا
تعدي الحد، وانقلب إلي الضد، مثله في ذلك مثل غريزة الأكل أو النكاح أو التملُّك أو سواها.
تساءلت مع نفسي! فسألتها أو هي سألَتْنِي.. ماذا سيقال عنك بعد رحيلك؟
وأيقنت أن هذا السؤال يخطر علي بال كثيرين، ومن قَبلُ تردد في أعماق بَشَرٍ مرُّوا من هنا،ووضعوا بَصْمَتَهم ثم
غادروا، والسؤال مدفون في ضمائرهم، أو هو بوح لم يصلنا صداه!
والسؤال هنا هو نتاج الفطرة، وإلا فليس ثمت في النطق ما يدعو إليه أصلًا.
هل أنت استثناء حتى تسأل سؤالًا كهذا؟!
قد تذهب حيث لا يذكُركَ أحد، إلا القليل من دائرتك الضيقة المحدودة، من ألفوْكَ وصرتَ جزءًا من كينونتهم،
كالأهل والأطفال وشركاء العمل، أو ينبري بعض من يرون لك عليهم حقًّا لإحياء هذه المناسبة بطريقتهم الخاصة، وفاءً لذكراك!
وعلي أحسن الأحوال، ستكون مثل عديد ممن ترجم لهم الذهبي أو ابن كثير أو السُّبكي أو ابن خَلِّكان.. وعندها ستكون رجلًا مذكورًا في بعض المصادر
والمدونات المعنية بالتراجم والرجال.
وسينقل المؤلِّف عنك- إن كان محايدًا- بعض ثناءات لا تخلوا من مجاملة، أو بقصد رسم القدوة للأحياء، فأنت ثاوٍ هامد، لا تُخشي منك منافسة، ولا يثور عليك
حسد، اللهم ربما!
سيقرأ عنك قرَّاءُّ يسمعون باسمك لأول مرة،فهم مستغربون من هذا الثناء .. هل أنت مظلوم مبخوس الحق؟ أو المترجم بالغ وتجاوز الحد؟ وهم لو قارنوك
بغيرك لوجدوا أن الحياة تحفُل بجمِّ غفير ممن لهم ذكر أو أثر يكبر أو يصغر، في الشأن العلمي، أو التربوي، أو الإعلامي، أو الإقتصادي، أو السياسي.
وأن هؤلاء حين يرحلون فلن يُعدَمَ من يؤرخهم أن يجد ما يقوله عنهم، وإذا كان معنيًّا بالكتابة فسيجمع قصاصات من هنا وهناك، قد توهم مَن يقرؤها مجتمعة
أنه أمام شخصيةً استثنائية، بَيْدَ أن الأمر ليس كذلك!
ستكون الأمور علي ما يرام، والناس خير، والكون كما هو يعمل ويتحرك، والبرامج قائمة، رحيلك لن يكون مشكلة حقيقية، وإن قيل ذلك!
عَلَيكَ سلامُ اللهِ قَيسَ بنَ عاصِم وَرَحمَتُهُ ما شاءَ أَن يَتَرَحَّمهــــا
تَحيَّـةَ مَن أَوليتَــهُ مِنـــكَ نعـَـةً إِذا زارَ عَن شَحطٍ بِلادَكَ سَلَّما
فَما كانَ قَيسٌ هُلكُهُ هُلكُ واحـِدٍ وَلَكِنَّــــهُ بُنيـــانُ قَومٍ تَهدَّمـا[ii]
ستكون النوبة إلي آخرين، وسيقومون بالمهمة علي الوجه المستطاع، وستُداوَي الجراح مع الزمن، وينتهي كل شيء.
هنا يكون الموت حافزًا حقيقيًا للعمل والإبداع والمواصلة والإنجاز، وكسب المزيد من الخبرات، وليس سبيلًا إلي التراخي والهمود واستعجال الموت قبل
حلوله.
(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر99)، وفي الحديث المرسل عن عمرو بن ميمون الأودي، وروي موصولًا، ولا يصح: (اغتنم خمسا قبل خمس :
شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)[iii]
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:(كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول:(إذا أمسيت فلا
تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).[iv]
علي أن رحيلك فتح بابًا، ومنح فرصةً لقادمين جدد، تنفسوا الصعداء، ولو قدِّر لك أن تسمع ما يقال حينئذٍ، لترامى إلي أذنك صوت يقول:رحيله محزن، ولعله
كان خيرًا.
وآخر يهمس: ظننا أنه سيترك فراغًا، بيد أن الأمر لم يبد كذلك. وثالث يبوح: قدَّم ما لديه!
وسبحان من يفني ويبقي، فتخلف الدهورَ دهورٌ والأنامَ أنامٌ.
[i] كما في صحيح مسلم (969) من حديث علي رضي الله عن، أن النبي صلي الله عليه وسلم بعثه”ألا تدع قبرا مشرفًا إلا سويته”.
و(970) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يجصص قبر وأن يقعد عليه، أو أن يُبني عليه “
[ii] الآحاد والمثاني(2\436) والاستيعاب(1\410)، والمجالسة للدينوري(804\م) منسوبًا إلي عبدة بن الطيب.
[iii] اخرحه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل (109)موصولًا بذكر ابن عباس رضي الله عنهما
[iv] صحيح البخاري(6416).