التربية الإيمانية

سباق القلوب…درهم يسبق مائة ألف

رغم أن الإيمان والعمل الصالح بينهما تلازم لاكتمال المنظومة الإيمانية- إلا أن هناك فرقا بين الإيمان والعمل الصالح.

(فالإيمان) عمل القلب كـ (الخشية والإجلال، والمهابة والحب ……).

و (العمل الصالح) عمل الجوارح كـ (الصلاة والصدقة والصيام …).

ولابد للمؤمن منهما معاً..

غير أن عمل القلب مقدم على عمل الجارحة وهو ما يطلق عليه النية أو القصد أو التوجه أو الدافع أي: المشاعر الموَجِّهَةُ لعمل الجوارح.

فالإيمان كالبذرة والعمل الصالح كالماء، فإذا وضعت الماء على أرض فضاء فلن تنبت شيئاً، وإن وضعت البذرة ولم تسقها بالماء فلن تنبت أيضاً.

أو إن شئت قلت أن عمل القلب (أي الإيمان) كأعمدة الأساس، وعمل الجوارح (العمل الصالح) كالبناء فلا يقوم بناء بغير أساس ولا ينفع أساس لم يبن عليه شيء.

فإذا أردت أن تعمل عملاً صالحاً ما كالاستغفار مثلاً، فإن عليك أن تضع البذرة أولاً أي تستحضر مشاعر الندم وإلا فلن يؤتي استغفارك ثمرة ولن يزيدك إيماناً حتى وإن تحرك اللسان به ألف مرة.

بل إنه قد يأتي بنتيجة عكسية، فإن المستغفر إن لم تبد عليه علامات الندم كان كالمستهزئ غير العابئ  فيحتاج استغفاره إلى استغفار.

ألا ترى أنه لو أتاك شخص قد أخطأ في حقك فقال لك -وهو يضحك- : سامحني !!

فإن هذا يزيد من سخطك وغضبك عليه؟

فليس المطلوب ألفاظ الاستغفار بل الندم والشعور بالتقصير والذنب.

فإن قلت: ألا يكفي أن أشعر بالندم؟ فما فائدة قولي باللسان إذن : أستغفر الله ؟

الفائدة هي ترجمة هذا الشعور من ناحية ومن ناحية أخرى تنمية الإيمان به فكلما نطقت بلسانك (مع وجود مشاعر الندم): أستغفر الله، زادتك هذه العبارات شعوراً بالندم ومن ثم يزيد الإيمان في هذا المشعر.

ثم إن الإيمان بدون عمل صالح يضيع الإنسان لأن الله تعالى قال: وْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) الأنعام 158

فإن لم تقم بالاستغفار بعد الندم فلم تكسب في ندمك خيراً، وإن لم تقم بالتسبيح بعد استحضار معاني التعظيم والإجلال فأنت لم تكسب في تعظيمك وإجلالك لله خيراً… وهكذا..

فكل من هذه مشاعر إيمانية لابد للمؤمن أن يكسب فيها عملاً صالحاً ينفعه يوم القيامة.

إذن فالبذرة والماء معاً هما السبيل لإنبات شجرة الإيمان في القلب.

وقد يتوهم البعض أن كثرة الأعمال الصالحة في ذاتها أفضل من الأعمال القليلة التي تكون مع الإيمان.

لكننا إذا نظرنا إلى الآيات والأحاديث التي وردت في ذلك نجدها تؤكد على أن الثواب المترتب على العمل الصالح إنما يكون على قدر ما فيه من مشاعر وتوجه وقصد قلبي.

لننظر مثلاً هذا الحديث:

قال صلى الله عليه وسلم : « سبق درهم مائة ألف درهم : رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عُرضه مائة ألف درهم فتصدق بها » ([1]) ، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى : ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ [الحديد : 10] .

فالذي أنفق قبل الفتح – في أوقات الضيق والحصار والمستقبل المجهول وقلة الموارد – أعظم درجة من الذي أنفق بعد الفتح في أوقات الرخاء والأمان والسعة ، فحركة المشاعر مع الإنفاق قبل الفتح أشد منها بعد الفتح .

ونفس الأمر ينطبق على الصلاة وقراءة القرآن وغيرهما من الأعمال : ﴿  لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج : 37] .

وفي هذا المعنى يقول ابن رجب : كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه ، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان ، أفضل بكثير من الغفلة وعدم الاتقان .

قال بعض السلف : إن الرجلين ليقومان في الصف ، وما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض ([2]) .

ويؤكد ابن القيم على هذا المعنى فيقول :

العمل اليسير الموافق لمرضاة الرب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إلى الله تعالى من العمل الكثير إذا خلا عن ذلك أو عن بعضه ، ولهذا قال الله تعالى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك : 2] ، وقال : ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف : 7] .

فهو سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض ، والموت والحياة ، وزيَّن الأرض بما عليها ، ليبلو عباده أيهم أحسن عملًا ، لا أكثر عملًا .

ثم قال:

والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة ، والتعظيم والإجلال ، وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه ، حتى تكون صورة العملين واحدة ، وبينهما في الفضل ما لا يُحصيه إلا الله تعالى([3]) .

إذن فالسباق سباق قلوب، سباق مشاعر، سباق نيات، فرب عمل صغير عظمته نية ورب عمل كبير صغرته نية.

نعم نحن نريد عملاً كبيراً وتكبره نيته أكثر وأكثر …لكن المهم أن تنطلق أعمالنا من نيات، من دوافع قلبية ، من مشاعر….أي من إيمان.


( [1] )  حديث حسن : أخرجه النسائي (5/59، رقم 2527) ، وابن حبان (8/135، رقم 3347) ، والحاكم (1/576، رقم 1519) ، والبيهقي (4/181، رقم 7568) ، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع ، حديث رقم : 3606.

( [2] )  مجموع رسائل ابن رجب 1/352 .

( [3] ) المنار المنيف لابن القيم (1 /33).