الإيمان والحياة

الإيمان بين العقل والقلب

لو كان العقل هو الذي يحرك الإنسان، لكانت المعرفة العقلية وحدها تكفي كدافع للسلوك إلا أن الأمر ليس كذلك، فمع أهمية المعرفة وضرورتها كبوابة أساسية لتحقيق العبودية ومن ثم الاستقامة؛ إلا أنها لا تكفي لتغيير السلوك.. لماذا؟!

لأن الذي يصدر الأوامر بالحركة الإرادية داخل الإنسان هو القلب وليس العقل.

فالقلب يعد بمثابة مركز الإرادة واتخاذ القرار، ومنه تنطلق الأوامر بالأفعال الإرادية وما على الجميع إلا التنفيذ.. قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب»([1]) .

.. هذا القلب تتجاذبه قوتان: «قوة الهوى» وما تميل إليه النفس وتشتهي، وقوة «الإيمان» (أو التصديق والاطمئنان) بما في العقل من أفكار وقناعات، والأقوى منهما وقت اتخاذ القرار هو الذي يستولي على الإرادة، ويوجه القرار لصالحه.

فعندما يسمع المسلم أذان الفجر ويريد أن ينهض من نومه للصلاة فإن صراعًا ينشب داخله، بين إيمانه بأهمية ضرورة القيام لصلاة الفجر وبين هوى نفسه وحبها للراحة والنوم وعدم التعرض للمشقة، فإن استيقظ فإنما أيقظه إيمانه الذي كان أقوى من الهوى في هذه اللحظة، وإن نام فإنما أنامه هواه الذي كان أقوى من إيمانه في هذه اللحظة.

  • * فالإيمان هو الدافع للسلوك الإيجابي ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
  • * والهوى هو الدافع للسلوك السلبي ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [القصص: 50].

معنى ذلك أنه إن لم يحدث للمعارف والقناعات الموجودة بالعقل اطمئنان وتصديق قلبي بالقدر الذي يقاوم الهوى المضاد لهذه القناعات وينتصر عليه؛ فإن هذه القناعات لن تترجم إلى سلوك عملي، ومن ثم يصبح كلام المرء وقناعاته في جانب، وسلوكه في جانب آخر.

فلا يكفي المرء اقتناعه بالفكرة لكي يمارس مقتضاها في واقعه العملي، بل لابد من تحويل هذه الفكرة إلى إيمان عميق في القلب ينتصر على الهوى.

ولا يكفي كذلك وجود إيمان بالفكرة في القلب لكي يثمر السلوك المترِجم لها، بل لابد وأن يكون الإيمان أقوى من الهوى المضاد لهذه الفكرة حتى يستطيع الانتصار عليه وقت اتخاذ القرار.

مع الأخذ في الاعتبار ضرورة التغذية الدائمة لهذا الإيمان حتى يتمكن المسلم من المقاومة المستمرة لهوى نفسه وشحها.

فالمعرفة العقلية – إذن – لا تكفي لحدوث الاستقامة والقيام بواجبات العبودية لله عز وجل، بل لابد وأن تتحول هذه المعرفة إلى إيمان عميق يرسخ مدلوله في القلب وينتصر على الهوى لينعكس أثره على السلوك.

.. لابد من تعانق الفكر بالعاطفة لينشأ الإيمان بإذن الله، ويتجلى هذا الأمر في قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج: 54].

ولقد أخبرنا القرآن عن أناس يقرون بربوبيته -سبحانه- على جميع خلقه، وبقيامه على شئونهم، ومع هذا الإقرار فهم لا يخشونه، ولا يستسلمون له، وهذا يؤكد أن إقرارهم كان إقرارًا عقليًا محضًا ولم ينشأ به إيمان في القلب، ومن الآيات التي تخبرنا بذلك قوله تعالى: ﴿قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ` سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون: 84- 87].

.. من هنا تظهر أهمية التربية الإيمانية؛ فلئن كانت التربية المعرفية تهدف إلى إنماء العقل بالعلم النافع الراسخ ألا وهو العلم بالله عز وجل، فإن تربية القلب الصحيحة تهدف إلى: تمكين الإيمان بهذه المعرفة وترسيخها فيه حتى تهيمن عليه، وتقهر الهوى، فيسهل على المرء القيام بأعمال العبودية بصورها المختلفة.

.. معنى ذلك أن تغيير السلوك تغييرًا حقيقيًا إيجابيًا لابد أن ينطلق من إصلاح القلب بالإيمان، وعندما نشاهد تغييرًا سلبيًا في السلوك فإن ذلك يعكس تمكن الهوى من القلب وضعف الإيمان فيه.

لعل هذا الحديث عن الإيمان وعلاقته بالسلوك يفسر لنا ظاهرة ابتعاد الفعل عن القول، والعمل عن العلم.

فكلما ضعف الإيمان تمكن الهوى؛ لأن مساحة القلب واحدة؛ ليترتب على ذلك آثار سلبية خطيرة تزيد وتنقص بحسب درجة ضعف الإيمان.

.. فمن آثار ضعف الإيمان: أنك قد تجد شخصا كثير الحديث عن القيم، والمثل، والأخلاق، لكنه يمارس عكس ما يتحدث عنه، وفي بعض الأحيان تجده وقد اعتراه الضيق من حاله وواقعه لكنه لا يستطيع تغييره لأن هواه قد سيطر على إرادته واستولى عليها.

ومن آثار ضعف الإيمان أيضًا: الترخص فيما لا ينبغي الترخص فيه، والتساهل والتباطؤ في تنفيذ أوامر الشرع، والبحث عن الرخص والأعذار، وتبني الآراء المرجوحة والضعيفة لإيجاد المبرر والمسوِّغ للتفلت من التطبيق الصحيح للدين.

ومن آثاره: شدة الاهتمام بالدنيا، والحرص على تحصيلها، وارتفاع سقف الطموحات فيها، وانشغال الفكر بها، مع كثرة أحلام اليقظة بالثراء والرفاهية.

ومن تلك الآثار: شدة الحرص على المال والحزن الشديد على نقصانه، ودوام إحصائه، وكثرة التفكير في سبل إنمائه، واستيفاء المرء لحقه المالي التام من الآخرين، وفي المقابل قد نجده يحاول التملص من أداء واجباته والتزاماته المالية كاملة تجاههم.

ومنها: ضعف الورع، والوقوع في دائرة الشبهات، والاقتراب من دائرة المحرمات كاستسهال الكذب وعدم قول الحقيقة كاملة، وعدم الوفاء بالعهود والمواعيد.

ومنها كذلك: عدم الحزن على فوات الطاعة، أو الوقوع في المعصية..

يقول عبد الله بن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا([2]) (أي: نحاه بيده أو دفعه) .

([1]) متفق عليه: البخارى (1/28 ، رقم 52) ، ومسلم (3/1219 ، رقم 1599).

([2]) رواه البخاري (6308).