سورة الغاشية مع سورة الأعلى من السور التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قراءتهما في الجمع والعيدين ..
والمتأمل للسورتين يجد بينهما قاسمًا مشتركًا وهو ( ربط الفكر بالذكر).. أي ربط ذكر الله سبحانه بالتفكر في مخلوقاته وفي أفعاله وتصريفه للكون المحيط بنا..
وكما سبق ذكره في سورة الأعلى أن أفضل مراتب الذكر هي: ما تواطأ فيها القلب مع اللسان.
ومن الجدير بالذكر أن اشتراك القلب مع الجوارح في أداء أي عبادة من العبادات وتأثره وتحركه له عظيم الأثر في زيادة الإيمان في القلب .. لذلك يقول ابن القيم: « إنما تتفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب… فالرجلان يكون مقامهما في الصف واحد وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض».. أي أن صلاة أحدهما أفضل من صلاة الآخر بمقدار حضور قلبه وتأثره أثناء أداء الصلاة، على الرغم من وقوفهما في نفس الصف، خلف نفس الإمام، وفي نفس المسجد…
ومما يعين على تواطؤ القلب مع اللسان حال الذكر: (التفكر).. وذلك من خلال محورين:
1- التفكر في القرآن ( التدبر ) … وهو كتاب الله المقروء.
2- التفكر في الكون ( التأمل ) … وهو كتاب الله المنظور.
فإذا تدرب الإنسان على هذين الأمرين: تدبر القرآن، والتفكر في الكون، وفتح نوافذ عقله على مصراعيها لأداء ذلك، فإن ذلك يملأ قلبه بمعاني العبودية المختلفة من حب ورجاء وتوكل وإنابة وخشية ورضا… وغيرها من معاني العبودية التي تزيد الإيمان في القلب وتجعلها في حالة يقظة مستمرة وبالتالي يتجاوب مع الذكر بتلقائية وسهولة..
ولو تتبعنا هذا الأمر في القرآن ( ربط الذكر بالفكر ) لوجدنا الأمرين مجتمعين ومتعانقين بشكل واضح وفي مواضع عديدة[1].. ومن هذه المواضع سورة الأعلى والغاشية..
ففي سورة الأعلى؛ وبعد عرض المشاهد الكونية التي تدعو للتأمل والتفكر، يأتي الذكر.. ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ [الأعلى : 2 – 10].
وفي سورة الغاشية:
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية : 17 – 21].
والسر في هذا الأمر هو أن التأمل يتيح لصاحبه مساحة كبيرة من التعرف على الله سبحانه من خلال كلامه، ومن خلال كتابه، مما يثمر عبودية في القلب يشعر بها المتأمل ويتذوقها.. ولذلك قال ابن القيم: «المعرفة بوابة العبودية»..
هذا بجانب أن التأمل في هذه المخلوقات يهز المشاعر ويحرك القلب ويؤثر فيه ويلين قساوته مما يجعله مستعدًا مهيأ لاستقبال التذكرة والموعظة، وذلك لامتلائه بمعاني الإيمان والرضا والسكينة والثقة في الله الخالق المبدع القادر…
وكما قال الشاعر:
تأمل سطور الكائنات فإنها … من الملأ الأعلى إليك رسائل
وقد خُطَّ فيها لو تأملت خطها… ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها… فصامتها يهدي ومن هو قائل
أبرز جوانب الهداية في السورة:
قصة الوجود: ( حال أهل النار – حال أهل الجنة ) نتيجة الامتحان.
حقوق الله على العباد: التفكر الذي يقودهم إلى معرفته وحسن عبادته..
من هو الرسول صلى الله عليه وسلم؟
من هو الله؟ : إليه المرجع، والحساب بيده، وهو الحاكم العدل سبحانه.
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ؟﴾
من هو الرسول صلى الله عليه وسلم؟
هو – فداه أبي وأمي – لا يعلم الغيب، بل يتلقى علمه عن الله سبحانه مباشرة، وكل حديث يخص القيامة فهو غيب، فالغاشية إذا من الأمور التي لا يعلمها إلا الله سبحانه، لذا فهو يخبره بأمرها وأمر ما سيحدث فيها من أهوال.
قصة الوجود:
نهاية الامتحان الدنيوي (امتحان العبودية).. يوم القيامة أو يوم “الغاشية” تسلم التقارير، وتظهر النتائج؛ ليعرف كل امرئ تقديرات صحيفته – والتي خطها بيده – ويعرف من أي الفريقين سيكون، كل هذا سيحدث يوم الغاشية، فأي حديث حديث الغاشية؟!
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ [الغاشية : 2 – 7].
قصة الوجود:
لقد تم توزيع نتائج الاختبار، وعرف كل فريق مكانه، فأخذ أصحاب اليمين كتبهم، وأصحاب الشمال كتبهم.
والآيات هنا تتحدث عن حال أصحاب الشمال وما سيلاقونه من أهوال – نسأل الله العافية – فهم قد رسبوا في امتحان العبودية فكان لزامًا أن تحدث العقوبة.
يصفها القرآن فنشعر كأننا نراهم؛ فالوجوه خاشعة خائفة ذليلة، متعبة كالحة، تذوق من العذاب ألوانًا وألوانًا؛ شرابها حار، بل شديد الحرارة، أما الطعام فهو نبات ذا أشواك يصعب مضغه فضلًا عن بلعه أو هضمه.. ومع قسوته ومرارته وأذاه في أفواههم وحلوقهم وبطونهم لا يشبعهم أو يسد جوعهم.. نسأل الله العافية..
من هو الله سبحانه؟
عذابه شديد لمن عصاه وخالف أمره ، وإلا فما الذي كان ينتظره هؤلاء العصاة مقابل تجرؤهم على ربهم وعصيانهم له وبغيهم على عباده؟
إن مثلهم كمثل عبد اشتراه رجل كريم، فأغدق عليه من النعم والعطايا وأطعمه وسقاه وكساه، ثم هو في النهاية لا يطيعه ويتكبر على خدمته وينكر فضله ومنته.. فماذا يستحق هذا العبد الآبق؟
ماذا كنا سنفعل إذا كان لدينا مثل هذا العبد؟! ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف : 49].
من هو الله سبحانه؟
يحب عباده، ولولا ذلك لما وصف لهم وبهذا التفصيل مآل ومصير من يعصاه، و1لك حتى يعتبروا ويخافوا من هذا المصير فيستقيموا على منهج الله سبحانه وعلى طاعته ﴿ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر : 16].
فالله سبحانه في هذه الآية وصفهم بأنهم “عباده”، إلا أنه – لحبه لهم – يخوفهم بذكر أحوال العصاة ومصارعهم ليزداوا له خشية ورهبة وتقوى..
ما هو القرآن؟:
كتاب فيه بشارة للمؤمنين، وإنذار للكافرين:
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الإسراء : 9 ، 10].
﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم : 97].
وبتذكير القرآن الدائم بثواب المؤمنين الصالحين والنعيم الذي أُعد لهم، وكذلك بسوء المآل للعصاة والمكذبين يستحث الصالحين ليزدادوا صلاحًا واستقامة، ويستحث العصاة ليتوبوا من معصيتهم ويقلعوا عنها؛ فما من أحد يتحمل هذا العذاب والنكال .. وبخاصة حين نتعرف عليه بأسلوب القرآن المؤثر الذي يجسد الصورة وكأن القارئ أو السامع يراها رأي العين.
[1] تأمل – أكرمك الله – سورة الواقعة بداية من الآية 58 وحتى الآية 74 .. فقد بدأت الآيات بعرض قدرة الله سبحانه في الخلق، وفي الإنبات، وفي إنزال الماء، وفي خلق سخرة النار التي هي معجزة في حد ذاتها.. ثم ختمت الآيات بالنهاية المناسبة تمامًا لبدايتها ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة : 74].وكذلك في سورة ” الروم “.. وإن كان الابتداء عكس سورة الواقعة بدأت بالذكر قبل الفكر، فقد بدأت الآية 17 بقوله سبحانه: ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم : 17].. ثم تبعتها بسرد مظاهر قدرة الله سبحانه في خلق السماوات والأرض والإنسان والليل والنهار والبرق والرزق… إلخ..