الإيمان والحياة

صحة الفكر طريق صحة السلوك

أثناء محنة الإمام أحمد التي تعرض فيها للتعذيب والتنكيل بسبب موقفه الرافض لادعاء المعتزلة بأن القرآن مخلوق، وإصراره على القول بأن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق.. جاءه تلميذه (المَروذي) يحاول إقناعه بأن يسلك مسلك العديد من العلماء في عصره الذين وافقوا المعتزلة على رأيهم، وذلك بلسانهم فقط، خوفًا على أنفسهم من بطش خلفاء الدولة العباسية وقتذاك، والذين تبنوا رأي المعتزلة (كالمأمون والمعتصم)، فقال المَروذي للإمام :

يا أستاذ: قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29]، فقال أحمد: يا مَروذي، اخرج فانظر أي شيء ترى، قال: فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقًا من الناس لا يُحصي عددهم إلا الله، والصحف في أيديهم، والأقلام والمحابر في أذرعتهم، فقال لهم المَروَزي:

أي شيء تعملون ؟ قالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، فقال المَروذي: مكانكم، فدخل إلى الإمام أحمد بن حنبل وهو قائم بين الساريتين، فقال: لقد رأيت قومًا بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبون.

فقال: يا مَروذي، أضِلُّ هؤلاء كلهم؟.. أقتل نفسي ولا أُضل هؤلاء!

لقد كان المَروَزي ينظر للأمر نظرة جزئية تهدف إلى تحقيق مصلحة الإمام أحمد في النجاة بنفسه من التعذيب والهلاك، هذه النظرة كانت تنطلق من فهمه لبعض النصوص الشرعية.

لكن الإمام أحمد كان ينظر للأمر نظرة أشمل وأعمق من نظرة تلميذه، ويفهم النصوص فهمًا متكاملًا، ويربط بعضها ببعض، وكان يدرك خطورة إقراره لقول المعتزلة – ولو باللسان فقط – على عقيدة الأمة، لذلك عزم على قول الحق مهما كلفه ذلك من ضُرٍّ وأذى، فأيده الله عز وجل وثبته حتى انجلت الفتنة، وظهر الحق.

لقد كان لفهم الإمام أحمد الصحيح للأمر، ونظرته الشاملة البعيدة لِما قد يترتب على رضوخه وإقراره لادعاءاتهم، أثر كبير في ثباته – بإذن الله – على موقفه.

هذه القصة بها الكثير من العِبَر والدلالات، من أبرزها:

أهمية الفهم ومدى تأثيره على مواقف الإنسان وسلوكه.

فعندما يفهم المرء أمرًا ما فهمًا محدودًا، فإن حُكمه عليه، ومواقفه نحوه ستنطلق من هذا الفهم، وهذا ما ظهر من موقف المَروَذي في البداية، بخلاف موقف الإمام أحمد الذي انطلق من فهمه الصحيح الشامل – كما أسلفنا –.

فحكمنا على الأشياء ينبع من تصورنا عنها وفهمنا لها، والذي قد يكون فهمًا صحيحًا أو خاطئًا.. شاملًا أو ناقصًا.

معنى ذلك أنه عندما نطالب أنفسنا أو الآخرين بفعل شيء ما، فالخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها في ذلك هي تصحيح الأفكار المرتبطة بهذا الفعل، فعندما تطلب من ابنك أن يُعامل الفقراء والمساكين معاملة حسنة، وأن يتودد إليهم، ويتواضع معهم، فلابد أولا من تصحيح الأفكار المرتبطة بهذا الفعل وإقناعه بها،كأن تفهمه أن جميع البشر سواسية أمام الله عز وجل، فلا فضل لغني على فقير، ولا لفقير على غني إلا بالتقوى، وأننا في دار امتحان لا دار نعيم وجزاء.

أو عندما تجد من حولك يهتم بظواهر العبادات دون جوهرها، كأن يُكثر من قراءة القرآن بلا فهم ولا تدبر، فعليك أولًا قبل أن تطالبه بالتركيز والتدبر أن تُبين له أهمية الإحسان في العمل ظاهرًا وباطنًا، وأنه مُقدَّم على الإكثار الشكلي منه فقط، وأن علو الدرجات عند الله مرتبط بهذا الإحسان.

وكذلك، فعندما نطلب من الآخرين تحكيم الإسلام في جميع شؤون الحياة، لابد أولًا أن نبين لهم مفهوم شمول الإسلام وأنه ينتظم جميع جوانب حياة الفرد والأمة، ونبين لهم أيضا أصول هذا الإسلام الشامل وأركانه الأساسية التي تشمل جوانب الحياة كافة، حتى إذا ما تم البيان واتضحت المفاهيم، كان السبيل إلى التطبيق المنشود سهلا قريبا.

وليس معنى هذا أن صحة الفكر تؤدي وحدها إلى صحة السلوك، بل هي الخطوة الأولى التي تحتاج معها إلى إيمان قوي يقهر الهوى ويستعلي على الرغائب والشهوات، ويحتاج كذلك إلى يقظة مع النفس حتى لا تأخذ حظَّها من هذا العمل فيضيع جهد العبد، ويصبح هباء منثورًا.

والمسلم محتاج دومًا إلى تذكير بالثوابت والمفاهيم الصحيحة حتى يكون سلوكه منسجمًا معها، أو على الأقل، ليكون مُدرِكًا صوابَها من خطئها، ومِن ثَمَّ يستطيع تقويم أعماله بناء على هذه المعرفة.

أما عندما يطول الزمن بلا تذكير، ومع تشابك الأحداث وازدياد المؤثرات السلبية، فإن المفاهيم الصحيحة قد تختلط بغيرها، وتختلف مقاييس تقويم الاهتمامات والسلوكيات، ومن ثَمَّ تضطرب الحركة.

لذلك كان من الضروري التذكير الدائم بالمفاهيم والثوابت التي قد يحدث فيها خلط وتداخل، ويقف على رأسها تلك المفاهيم المرتبطة بنهضة الأمة الإسلامية وطرق إصلاحها .

ومما يؤكد على أهمية وضوح الرؤية حول طريق النهضة والإصلاح، هذه الأحداث التي تمر بها الأمة وما يصاحبها من انفتاح إعلامي غير مسبوق تختلط فيه القيم والأفكار، ناهيك عن تطلع أبناء الأقطار الإسلامية إلى نهضة تحقق لهم الرفاهية المادية، كل ذلك وغيره أدى إلى اختلاط المفاهيم عند البعض حول سُبل النهوض بالأمة، وطرق الإصلاح التي من خلالها يعود للمسلمين عزهم ومجدهم بإذن الله.