التربية الإيمانية

متى يزداد إيماننا؟

نستمع في خطب الجمعة ودروس العلم في المساجد ومن خلال وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية إلى كلام كثير يتناول جوانب الدين المختلفة من عقيدة وأخلاق وعبادات ومعاملات من علماء ودعاة أفاضل، فهل يزداد إيماننا باستماعنا لحديثهم ؟ !

الإجابة عن هذا السؤال تستدعي تذكُّر ما قيل سابقا حول الفارق بين القناعة العقلية – فقط – بالفكرة، وبين الإيمان بها، فالإيمان بالفكرة يعني : قناعة عقلية يُصاحبها انفعال وجداني .

فعندما أستمع إلى خطيب الجمعة وهو يطرح قضية هامة، فأنتبه إلى كلامه، وأقتنع به، ثم لا أجد مشاعري تتجاوب معه فإن هذا معناه أن كلامه وقف عند حدود العقل، ولم يصل إلى القلب ومن ثَمَّ لم يُنشئ إيمانًا ..

فإن انفعلت معه وتأثرت بحديثه عندما قصَّ قصة مؤثرة تؤكد المعنى الذي يطرحه كان وقت التأثر هو الوقت الذي زاد فيه الإيمان.

والمقصود بالانفعال والتأثر هو حركة المشاعر بأنواعها المختلفة من فرح واستبشار ورغبة ورهبة وشوق وإجلال وسكينة.

أي أن الخوف تأثر، والفرح تأثر، والشوق تأثر، و …، فالتأثر هو عنوان لتفاعل المشاعر مع ما يُطرح على العقل من أفكار.

معنى ذلك أننا يُمكننا معرفة الوقت الذي يزداد فيه الإيمان في قلوبنا وذلك حين تتجاوب مشاعرنا مع ما نسمعه من معانٍ دينية، أو مع العمل الذي نقوم به.

فحين يدخل المرء إلى الصلاة ولا تتجاوب مشاعره فيها ( مشاعر الخضوع والخشوع ) لله عز وجل فهذا معناه أن صلاته لم تقم بزيادة الإيمان في قلبه، أما إذا تأثر وانفعل مع دعائه في سجود الركعة الثانية – مثلًا – فإن هذا هو القدر الذي زاد فيه الإيمان – بإذن الله – .. وهكذا.

من هنا نقول بأنه ليست العبرة بكثرة الأعمال التي يقوم بها المرء، بل العبرة بمقدار تجاوب القلب معها وتأثره بها، وانفعال مشاعره معها ..

فوجود القلب مع العمل، أو حضوره، أو جمعه، أو تجاوبه، أو مواطأته للسان في الذكر .. كلها معان مترادفة « للتأثر » بصوره المختلفة.

الإيمان والطاعة :

الإيمان يزداد بالطاعة .. نعم، ولكن شريطة أن يتحرك القلب معها – أي يتأثر – فإن لم تتحرك المشاعر لن يزداد الإيمان، ومن ثَمَّ لن يظهر أثر الطاعة على السلوك، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر عندما يتحرك القلب، وتنفعل المشاعر معها، فيؤدي ذلك إلى زيادة الإيمان لينتج عنه زيادة الورع والدافع الداخلي لفعل الخيرات وترك المنكرات.

فإن لم يتحرك القلب ويخشع في الصلاة، أصبحت تلك الصلاة حركة بالعضلات فقط، ومن ثَمَّ لا يظهر لها أثر إيجابي في السلوك، وهذا يُفسر لنا ظاهرة عدم وجود أثر للعبادات الكثيرة التي نؤديها على سلوكنا ومعاملاتنا.

لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : « وأعوذ بك من صلاة لا تنفع »[1].

وقال ابن عباس : « ركعتان مقتصدتان في تفكُّر خير من قيام ليلة والقلب ساه».

فإحسان العمل – إذن – مقدم على الإكثار منه بالجوارح فقط.

وإحسان العمل يعني الاجتهاد في حضور القلب وتوجه مشاعره نحو الله عز وجل، وتستدعي كذلك موافقته للسنة .

فالعمل القليل مع حضور المشاعر أفضل من العمل الكثير بدون حضورها، أو حضورها بصورة قليلة محدودة.

بل إن الثواب المترتب على العمل يختلف من شخص لآخر حسب حركة مشاعره مع العمل ؛ فلو أن رجلين يسيران في الطريق سويًّا وعُرض عليهما عمل خيري يستوجب منهما بذل ما يُمكنهما بذله من مال، وكان الأول فقيرًا، وكل ما يملكه عشرة دراهم وعليه أعباء معيشية لا تغطيها هذه الدراهم المعدودة، لكنه تجاوب مع العمل الخيري وشعر بأهميته، فدفعه حبه لله وطمعه في مثوبته إلى إخراج ثمانية دراهم من العشرة .. بَذَلها وهو يُدرك قدر العنت الذي قد يواجهه لتدبير نفقاته ونفقات عياله، وأما الرجل الآخر فهو موسر، عنده بضعة آلاف من الدراهم، فأخرج ألف درهم طمعًا في المثوبة، وحبًّا لله، لكنه لم يشعر بما شعر به الأول لأن الألف درهم لا يُشكل إخراجها عنده مشكلة كبيرة، فهل يستوي الاثنان في درجتهما عند الله؟

لو كانت العبرة بالعدد والكم، لكان الثاني أفضل، لأن ما أخرجه أكثر بكثير من الأول، ولكن لأن العبرة بحركة المشاعر، وحضور القلب مع العمل كان الأول هو الأفضل عند الله، كما قال صلى الله عليه وسلم : « سبق درهم مائة ألف درهم : رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عُرضه مائة ألف درهم فتصدق بها » [2] ، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى : ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ [الحديد : 10].

فالذي أنفق قبل الفتح – في أوقات الضيق والحصار والمستقبل المجهول وقلة الموارد – أعظم درجة من الذي أنفق بعد الفتح في أوقات الرخاء والأمان والسعة، فحركة المشاعر مع الإنفاق قبل الفتح أشد منها بعد الفتح.

ونفس الأمر ينطبق على الصلاة وقراءة القرآن وغيرهما من الأعمال : ﴿  لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج : 37].

وفي هذا المعنى يقول ابن رجب : كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان، أفضل بكثير من الغفلة وعدم الاتقان.

قال بعض السلف : إن الرجلين ليقومان في الصف، وما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض [3] .

ابن القيم يؤكد:

ويؤكد ابن القيم على هذا المعنى فيقول:

العمل اليسير الموافق لمرضاة الرب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إلى الله تعالى من العمل الكثير إذا خلا عن ذلك أو عن بعضه، ولهذا قال الله تعالى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك : 2]، وقال : ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف : 7].

فهو سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض، والموت والحياة، وزيَّن الأرض بما عليها، ليبلو عباده أيهم أحسن عملًا، لا أكثر عملًا.

والأحسن : هو الأخلص والأصوب، وهو الموافق لمرضاته ومحبته، دون الأكثر الخالي من ذلك، فهو سبحانه وتعالى يحب أن يُتعبد له بالأرضَى له، وإن كان قليلًا، دون الأكثر الذي لا يُرضيه، والأكثر الذي غيره أرضى له منه.

ولهذا يكون العملان في الصورة واحدًا، وبينهما في الفضل – بل بين قليل أحدهما وكثير الآخر – أعظم مما بين السماء والأرض.

وهذا الفضل يكون بحسب رضا الرب سبحانه بالعمل، وقبوله له، ومحبته له، وفرحه به سبحانه وتعالى، كما يفرح بتوبة التائب أعظم فرح، ولا ريب أن تلك التوبة الصادقة أفضل وأحب إلى الله تعالى من أعمال كثيرة من التطوعات وإن زادت في الكثرة عن التوبة.

ولهذا كان القبول يختلف ويتفاوت بحسب رضا الرب سبحانه وتعالى بالعمل، فقبول يُوجِب رضا الله سبحانه وتعالى بالعمل، ومباهاة الملائكة به، وتقريب عبده منه، وقبول يترتب عليه كثرة الثواب والعطاء فقط.

كمن تصدق بألف دينار من جملة ماله – مثلًا – بحيث لا يكترث بها ..، وآخر عنده رغيف واحد هو قوته، لا يملك غيره، فآثر به على نفسه من هو أحوج إليه منه، محبة لله، وتقربًا إليه وتوددًا، ورغبة في مرضاته، وإيثارًا على نفسه.

فيالله كم بعد ما بين الصدقتين في الفضل ومحبة الله وقبوله ورضاه !!

والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة، والتعظيم والإجلال، وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه، حتى تكون صورة العملين واحدة، وبينهما في الفضل ما لا يُحصيه إلا الله تعالى.

وتتفاضل أيضًا بتجريد المتابعة، فبين العملين من الفضل بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة، فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلًا لا يحصيه إلا الله تعالى[4].

إنما الأعمال بالنيات:

فالعبرة بما في القلوب من معاني العبودية لله، والعبرة كذلك باستحضارها مع العمل، وكلما كان توجه المشاعر لله – قَبل العمل وفي أثنائه – أشد، كانت درجته ومثوبته عند الله أكبر، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : «إنما الأعمال بالنيات » [5].

فالنية : هي القصد والتوجه، وعلى قدر توجه القلب نحو العمل حبًا لله، وابتغاء مرضاته، وطمعًا في مثوبته يكون الفضل والأجر منه سبحانه : ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة : 265].فالوابل : هو المطر الشديد، والطَّل : هو الرذاذ الخفيف والفارق بينهما في الأثر كبير على الزرع، كالفارق بين من يشتد إخلاصه وتوجهه لله وابتغاء مرضاته عند الإنفاق وبين من لم يشتد ذلك عنده ..

.. فالعبرة – إذن – بالنيات لا بصور الأعمال.

لذلك نجده صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على إخلاص الدعاء عند صلاة الجنازة حتى يكون هذا أنفع لصاحبه في الفضل والمثوبة : « إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء»[6].

وإليك – أخي القارئ – هذا التحذير النبوي الشديد من حضور البدن للعمل مع عدم حضور القلب فيه .. قال صلى الله عليه وسلم : « ما بال أقوام، يُتلى عليهم كتاب الله فلا يدرون ما يُتلى منه مما تُرِك، هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل، فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم، ولا يقبل الله من عبد عملًا حتى يشهد بقلبه مع بدنه »[7].

السباق سباق قلوب :

عندما نقرأ في سيرة التابعين وتابعيهم من سلف هذه الأمة نجد أن منهم من كان يُصلي الفجر بوضوء العشاء سنوات وسنوات، ويظل طيلة الليل في صلاة، ومنهم من كان يصوم صيام داود عليه السلام، ومنهم، ومنهم ..، فإذا ما نظرنا لسيرة السابقين الأولين من جيل الصحابة رضوان الله عليهم نجد أنهم من الناحية الكَمِّية أقل منهم عبادة، ومع ذلك فقد فاقوهم في الرتبة والمنزلة .

قال ابن مسعود لأصحابه : أنتم أكثر صومًا وصلاة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم، قالوا : وبم ذاك ؟ قال : كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة[8].

بل إن أبا بكر الصديق لم يسبق الصحابة بكثرة العمل، بل بما في قلبه من إيمان .

قال بعض السلف : ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره .

ولأن العبرة بحال القلب قبل وأثناء العمل، فإن المتأمل لتوجيهات الشرع يجد أنها تحُثُّنا على تهيئة الأجواء المناسبة لاستجاشة المشاعر وحضور القلب قبل العمل .

فعلى سبيل المثال : الصلاة:

نجد أن الشرع يحثنا على تفريغ الذهن من الشواغل، وعدم تعلق القلب بشيء من شأنه أن يمنعنا من التركيز فيها، فإذا حضر الطعام مع دخول وقت الصلاة يُفضَّل البدء بالطعام حتى يدخل المرء إلى الصلاة وذهنه غير مشغول به .

وكذلك عند مدافعة الأخبثين … قال صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان »[9].

ولا ينبغي للمرء أن يُسرع في خطواته إلى المسجد ليدرك الصلاة، بل عليه أن يمشي في سكينة وهدوء، فالإسراع من شأنه أن يجعله يدخل إلى الصلاة وهو مضطرب فيصعُب عليه جمع قلبه .

قال صلى الله عليه وسلم : « إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون عليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا »[10].

والحث على التبكير في الذهاب إلى المسجد قبل إقامة الصلاة له وظيفة مهمة في صرف شواغل الدنيا عن الذهن.

وكذلك فإن الحث على تذكُّر الموت قبل الصلاة من شأنه أن يستجيش المشاعر نحو الرجاء والطمع في عفو الله، والخوف والرهبة من عقوبته، فيزداد الحضور القلبي والخشوع فيها.

.. قال صلى الله عليه وسلم : « اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحَرِي أن يُحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاة غيرها ..»[11].

الإيمان ما وقر في القلب

كان ( عمرو ) يسير في الطريق فرأى أمامه حادث سيارة، وشاهد دماء المصابين متناثرة على الطريق، والكل يتسابق لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه فتأثر تأثرًا بالغًا، وذهب  إلى عمله وهو واجم، مذهول، فلا حديث مع الزملاء كسابق عهده، ولا ضحك، ولا غيبة، أو سخرية من الآخرين .. وظل طيلة يومه على هذا الحال، وبعد بضعة أيام بدأ يعود تدريجيًّا إلى سيرته الأولى.

فما الذي حدث حتى يتغير هذا التغيير، وما الذي حدث حتى يعود ثانية لسابق حاله ؟!

الذي حدث أنه عندما شاهد ما شاهده في الطريق  تأثر بما رآه، وطَفَتْ حقيقة الموت وإمكانية وقوعه في أي وقت على ساحة فكره، واستثيرت معها مشاعر الرهبة والخشية، فانتعش داخله الإيمان بحتمية الموت، فأثمر هذا الإيمان : يقظة جعلته ينتبه لأحواله، ويُفكر في أموره، ويُدقق في كلامه وأفعاله .. وشيئًا فشيئًا ذهبت تلك الحالة، وهدأت المشاعر، فعاد مرة ثانية إلى غفلته، ليُمارس حياته كما كان يُمارسها من قبل.

ويتكرر الأمر مع آخَر سمع خطبة حارَّة تحُث على الإنفاق في سبيل الله، أو شاهد مناظر مؤثرة في التلفاز تُبيِّن حال الُمشَرَّدين والبائسين والمنكوبين في بلدان المسلمين، فإذا به يُبادر بإخراج جزء من ماله في سبيل الله، بل ويدعو مَن حوله من أهله وجيرانه لذلك، وبعد بضعة أيام يعود إلى سابق عهده، وتفتُر همته عن الإنفاق وعن دعوة الناس إليه.

وسبب ذلك أنه قد حدث استثارة واستجاشة قوية ومؤثرة للمشاعر أثمرت هذا الإنفاق، وبعد ذلك هدأت المشاعر فتوقف الإنفاق.

فإن قلت : وما الحل لكي نستمر في اليقظة والقيام بالأعمال الصالحة بدوافع إيمانية ؟

الحل يكمُن في القيام بالتربية الإيمانية الصحيحة التي تجعل القلب في حالة دائمة من اليقظة.

أو بمعنى آخر : لا ينبغي علينا أن نجعل أعمالنا الإيمانية رهن المؤثرات القوية التي تستثير المشاعر بصورة مؤقتة، ثم يختفي أثرها بمرور الوقت، وهذا لن يكون إلا إذا أصبح الإيمان مستقرًا في القلب، وأصبحت المشاعر في حالة من التأهب للتأثر بأدنى مؤثر وبأقل تذكرة.

فكلما قوي الإيمان في القلب واستقر فيه كانت استثارته أسرع وأدوَم، بعكس الإيمان الضعيف الذي يحتاج – لكي يُعبر عن نفسه – لمؤثر قوي، يدفع صاحبه للعمل الصالح بصورة مؤقتة.

ولأن الحياة كثيرة الأحداث والتقلبات، فإنها تحتاج منَّا إلى إيمان قوي مستقر في القلب يدفعنا دومًا إلى فعل الخيرات وترك المنكرات في كل وقت وتحت أي ظرف، وليس إيمانًا ضعيفًا يحتاج لكي يظهر إلى مؤثر ضخم وحدث جلل، وفي الوقت نفسه ؛ فإن هذا الإيمان الضعيف سرعان ما يزول أثره الإيجابي على السلوك بزوال المؤثر الذي استثاره، ومثال ذلك : البيت الذي لا سقف له فإن أهله يتعرضون بصورة دائمة لحر الشمس ولهيبها، لذلك فأسعد أوقاتهم تلك التي تأتي فيها سحابة فتظللهم، وتحُول بينهم وبين الشمس، ولكن – من المعتاد – ألا يستمر ظل السحابة طويلًا، فسرعان ما يزول بتحركها وابتعادها عنهم، لتعود الشمس بحرارتها ولهيبها إليهم .. ومن البدهي أنهم إذا رغبوا في ظل دائم، ووقاية مستمرة من الشمس، فعليهم أن يُشيِّدوا سقفًا للبيت بدلًا من أن ينتظروا ظهور السُحب، فظل السحاب عارض سرعان ما يزول أثره، أما ظل السقف فهو دائم لأنه مستقر فوقهم.

كذلك حال الإيمان الناشئ عن أمور عارضة، وحاله الناشئ عن استقراره في القلب.


[1] أخرجه ابن حبان (3/293، رقم 1015)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[2] حديث حسن : أخرجه النسائي (5/59، رقم 2527)، وابن حبان (8/135، رقم 3347)، والحاكم (1/576، رقم 1519) والبيهقي وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم : 3606.

[3]  مجموع رسائل ابن رجب 1/352.

[4] المنار المنيف لابن القيم (1 /33).

[5] أخرجه البخاري (1/3، رقم 1)، ومسلم (3/1515، رقم 1907).

[6] حديث صحيح : أخرجه : أبو داود ( 3200 )، والنسائي في ” الكبرى ” ( 10917 )، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (669).

[7] حديث ضعيف : أورده ابن الأثير في جامع الأصول ( 5/648)، وضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة ( 11/52 برقم 5050 ).

[8] أخرجه الحاكم في المستدرك ( 4/350 برقم 7880 ) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشُعب ( 13/184 برقم 10152 ).

[9] أخرجه مسلم (2/78 برقم 560 ).

[10] متفق عليه : البخاري (1/228، رقم 609)، ومسلم (1/421، رقم 603) .

[11] حديث حسن : أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (1/431، رقم 1755)، وحسنه الحافظ ابن حجر في زهر الفردوس، وكذلك حسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة ( 3/408 برقم 1421).