الإيمان والحياة

لماذا لا يظهر أثر الإيمان في كل الأوقات والأحوال ؟

كان ( زيد ) في المسجد يستمع إلى موعظة ، وكانت الموعظة مؤثرة ، وَجِلَت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، وتلا الموعظة صلاة العشاء وفيها قرأ الإمام بآيات من سورة ( ق ) تتحدث عن الموت وما بعده من أحداث ، فعلا نحيب المصلين ، واشتد بكاؤهم ، وانتهت الصلاة ، وانطلق ( زيد ) خارجًا من المسجد ، وذهب ليأخذ نعله فلم يجده .. بحث عنه في كل مكان فلم يعثر له على أثر ، انتابته حالة من الجزع والضيق ، وتلفَّظ بألفاظ غير لائقة ، وغادر المسجد حانقًا متذمرًا ..

لقد كان زيد منذ دقائق يبكي من خشية الله ، فما الذي تغير حتى يظهر بهذه الحالة البعيدة عن الإيمان ؟ لماذا لم تدفعه الحالة الإيمانية التي كان يعيشها إلى التعامل الهادئ مع المصيبة التي أصابته ؟

فإن قلت : لأن الإيمان غير مستقر في قلبه وأن بكاءه وتأثره بالموعظة والصلاة كان عارضًا ، فلما زال أثره انكشف إيمانه ..

هذا التعليل قد يكون صحيحًا لو كانت المدة الزمنية بين الصلاة وبين سرقة نعله طويلة ، أمَا والأمر لم يتعد بضع دقائق لا تسمح بزوال حالته الإيمانية ، فإن السبب غير ذلك .

ولعل ما يكشف لنا سبب هذا التعارض هو أن الإيمان يتناول جميع المشاعر ، بمعنى أن الحالة الإيمانية التي كان يعيشها ( زيد ) في الموعظة والصلاة كانت تُعبِّر عن بعض مشاعر القلب وليس عن كل مشاعره .

لقد كانت تُعبِّر عن مشاعر الخوف والرهبة ، في حين ظلَّت باقي المشاعر كما هي دون استثارة ، ومن ثَمَّ عندما تعرض لموقف السرقة ، لم يتعامل معه تعاملًا إيمانيًّا مناسبًا لأن الإيمان في اتجاه مشاعر الطمأنينة والسكينة ضعيف ، ولم يتم استثارته ، وهذا يُفسِّر لنا – إلى حد بعيد – هذا التناقض بين حالته الباكية ، ورد فعله الجَزِع .

فالإيمان يتناول جميع المشاعر ؛ ولكي نتعامل مع أحداث الحياة المختلفة وتقلباتها تعاملًا إيمانيًّا يتناسب مع كل حدث ؛ لابد من أن يكون هناك إيمان مستقر في كل شعور من مشاعره ، كالحب والبغض ، والرغبة والرهبة ، والسكينة والطمأنينة ، والفرح والاستبشار ، والندم ، و… .

فالإيمان المتكامل هو الذي يدفع صاحبه لحسن التعامل مع الأحداث المختلفة كما قال صلى الله عليه وسلم : «عجبًا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن » ([1]).

والحد الأدنى المطلوب وجوده من الإيمان في جميع المشاعر – ومن ثَمَّ الانتصار في معركة ردود الأفعال مع الأحداث – هو أن تكون نسبة وجوده أعلى من نسبة وجود الهوى حتى تكون له الغلبة عليه.

فعلى سبيل المثال : لو تكلمنا عن شعور الحب كأحد المشاعر الرئيسة ، فمن المتوقع أن يحتوي على حُب النفس ، والوالدين ، والزوجة والأولاد ، والمال ، و… .

كل ذلك لا بأس من وجوده إذا كان حُب الله أكبر من حُبِّهم مجتمعين ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة : 165] .

وفي الحديث : « ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما …» ([2]) .

فإذا تعارض حب الله مع أي منهم تغلَّب حب الله عز وجل ، ومن ثَمَّ يكون القرار لصالحه وليس العكس : ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة : 24] .

( [1] ) أخرجه مسلم (4/2295 ، رقم 2999).

( [2] ) متفق عليه ، البخاري (1 / 14، برقم 12 ، 5694 ، 6542) ، ومسلم (1/67 ، رقم 43) .