الإيمان والحياة

النمو الإيماني والتعامل مع المال

المال هو أهم رمز « للدنيا » ، والكثير من الناس يظنُّون أنهم يستطيعون من خلال وجوده معهم أن يُحققوا جميع أمانيهم ويجلبوا لأنفسهم السعادة ، ويتمتعوا بمباهج الحياة كيفما شاءوا ، لذلك يُشكِّل المال المادة الأساسية للطمع والتنافس والحسد بين الناس .

ولأن الشيطان يعلم ذلك ، ويعلم طبيعة النفس وحبها الشديد للمال ، وشُحِّها به ؛ فإن من مداخله الرئيسية على الناس : إزكاء هذه الطبيعة فيهم ، وتخويفهم من المستقبل المجهول ، ومن احتمالية حدوث الفقر … ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ﴾ [البقرة : 268] .

فإذا ما استيقظ الإيمان – يقظة حقيقية متمكنة من القلب – كان من أهم علامات التغيير الذي يحدث للمرء : اختلاف طريقة تعامله مع المال .

.. نعم ، في البداية لا يكون التغيير كبيرًا ، فالمال من أحب الأشياء للنفس ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر : 20] .

إلا أن النهم والشغف بالمال ستقِل ثائرته – نسبيًّا – في ذات العبد ، وكلَّما نمَا الإيمان أكثر انعكس ذلك على طريقة تعامله معه ، فيزداد إنفاقه في أوجه الخير المختلفة ، ويسهل عليه اتخاذ قرار الإنفاق لاسيما في أوقات العُسر والاحتياج ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾ [آل عمران : 134] .

وشيئًا فشيئًا ينقطع تعلق القلب بالمال ، ومن ثَمَّ يصير حُرًّا منه ، لا عبد له .

ومن مظاهر التغيير في هذا الجانب : نقص ملحوظ يشعر به المرء في فرحه عندما يُفاجأ بزيادة رصيده من المال ، أو عند الفوز بصفقة رابحة ، وكذلك نقص ملحوظ في حزنه عند فقده جزء من ماله ، أو عند ضياع مصلحة دنيوية كانت في متناول يده ، وليس معنى هذا أن مشاعر الفرح والحزن لا تتحرك لديه عند إقبال المال أو إدباره ولكنه انفعال لحظي سرعان ما يزول .

ومن المظاهر العملية للتغيير في هذا الجانب : السماحة في البيع والشراء ، فتجده لا يُدقق في سعر الشيء ليشتريه بأرخص الأسعار ، أو يُغالي فيه ليبيعه بأعلاها .

وكلما نما الإيمان أكثر وأكثر صار الإنفاق أحب إليه من الإمساك ، وهو حين يفعل ذلك يفعله بدافع الثقة العميقة بأن الآخرة هي خير وأبقى ، وأن الحياة في الجنة هي الحياة الحقيقية الدائمة التي ينبغي أن يتجهز لها العبد فيؤدي ذلك الإيمان إلى تحيُّن أي فرصة لإرسال ما يُمكن إرساله من أموال وخلافه إلى داره الباقية « هناك » ، ويجد صعوبة في إبقاء الشيء لداره الدنيوية التي يشعر أنه سيتركها بين لحظة وأخرى .

ولك أن تتأكد من هذا المعنى أكثر وأكثر إذا ما راجعت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكيف أنه مات ودرعه مرهونًا عند يهودي مع أنه صلى الله عليه وسلم قد جاءته أموال كثيرة من الغنائم كغنائم خيبر والطائف ، لكنه كان يُنفقها إنفاق من لا يخشى الفقر ، فكما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه : ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه ، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين ، فرجع إلى قومه فقال : يا قوم أسلموا ، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر[1].

وعن عائشة أنهم ذبحوا شاة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما بقي منها ؟ » قالت : ما بقي منها إلا كتفها . قال : « بقي كلها إلا كتفها » [2] .

وهذا أبو الدرداء عندما عوتب في عدم وجود أغطية في بيته تقيه وتقي ضيوفه من برد الشتاء حيث قال : لنا دار هناك نُرسل إليها تباعا كل ما نحصل عليه من متاع ، ولو كُنَّا استبقينا في هذه الدار شيئا منها لبعثنا به إليكم .

وليس معنى هذا هو حب الفقر والرغبة فيه ، فلقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه « وأعوذ بك من الكفر والفقر » [3] . ولكننا – هنا – نتكلم عن حالة إيمانية سامقة يعيشها القلب تدفعه إلى الضن بالمال على الدنيا ، والاكتفاء بأقل القليل لتيسير أموره فيها ، وإرسال كل ما يُمكن إرساله إلى الدار الباقية .

ولقد كان هناك أثرياء في الصحابة رضوان الله عليهم نتيجة عملهم في التجارة كعثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، ولكنهم كانوا يُحبون إنفاق أموالهم أكثر من حبهم لإمساكها ، بل كانوا يتحينون أي فرصة تتاح لهم لبذل تلك الأموال كما فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة ، وشراء بئر رومة ، وكما فعل عبد الرحمن بن عوف عندما أخرج كل تجارته التي جاءت من الشام لله عز وجل بعدما بلغه قول السيدة عائشة : بارك الله فيما أعطاه في الدنيا ، ولثواب الآخرة أعظم .

[1] أخرجه مسلم في الفضائل (2312) .

[2] حديث صحيح : أخرجه أحمد (6/50) ، والترمذي (4/644 ، رقم 2470) وقال : صحيح ، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم ( 2544) .

[3] أخرجه ابن أبى شيبة (6/24 ، رقم 29184) ، وأبو داود (4/324 ، رقم 5090) ، وأحمد (5/42 ، رقم 20446) ، وقال الشيخ الألباني صحيح الإسناد .