ولتحفيز النفس عند القيام بالعمل صورأخرى كثيرة..
حادي عشر : ضرب المثل:
يقول بديع الزمان النورسي في فائدة ضرب الأمثال : أنها تُظهر الحقائق البعيدة جدًّا أنها قريبة جدًا، وتوصل إلى أسمى الحقائق وأعلاها بسهولة ويسر[1].
ومن فوائد المثل ( إبراز صورة معنوية في صورة حسية فيتقبلها العقل ؛ لأن المعاني المعقولة لا تستقر في الأذهان إلا إذا صِيغت في صورة حسية قريبة الفهم .. فيكون وقعها التأثيري أقوى وأومض في النفوس والعقول.
والأمثال تخاطب عقول الناس بما يعرفونه، وتجعل ما هو غائب ماثلًا أمامهم فتُقرب إليهم البعيد)[2].
ولضرب المثل وظيفة مهمة في تحفيز الإنسان للقيام بالعمل من خلال تقريب المعنى والتأثير في المشاعر، يقول الإمام محمد عبده : واختير للمثل لفظ الضرب لأنه يأتي عند إرادة التأثير، كأن ضارب المثل يقرع به أُذن السامع قرعًا ينفذ أثره إلى قلبه، وينتهي إلى أعماق نفسه[3].
لذلك قيل بأن : المعلم الناجح هو الذي يُكثر من ضرب الأمثال.
فعلينا استخدام هذه الوسيلة للتأثير على المشاعر قبل القيام بالعمل وبخاصة عند مخاطبة الآخرين.
والقرآن والسنة بها الكثير من الأمثال التي تُقرب المعاني البعيدة في صور قريبة محسوسة، ومن ذلك قوله تعالى : ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر : 29].
وقوله :﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر : 21].
ومما جاء في السنة قوله صلى الله عليه وسلم : « مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » ([4]) .
وقوله : « إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة »[5].
ثاني عشر : الصورة المؤثرة
المشاهد التي تراها العين يصل مدلولها إلي العقل والقلب بصورة سريعة وتكون أشد تأثيرًا على المشاعر مما يُنقل عن طريق السمع .. انظر إلى موسى – عليه السلام – وقد تأثر وغضب عندما أعلمه الله عز وجل بما فعله قومه من عبادة العجل، لكنه لم يلق الألواح التي في يديه، ولكن عندما ذهب لقومه ورآهم بعينيه اشتد غضبه واشتد، وألقى الألواح، وفي هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم : « ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه فى العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت »[6].
لذلك من الوسائل العظيمة للتحفيز : استخدام الصورة الحية، والمشاهدة المؤثرة التي تعلق في الذهن وتستثير المشاعر في اتجاه ما ترمي إليه الصورة ..
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسوق والناس كنفتيه – أي : عن جانبيه – فمر بجدي أسك[7] ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال : « أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟» فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به ؟ثم قال : « أتحبون أنه لكم ؟» قالوا : والله لو كان حيًّا كان عيبًا، إنه أسك، فكيف وهو ميت ! فقال: « فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم»[8].
تخيل معي –أخي القارئ– مدى تأثير هذا المشهد على الحاضرين، وكيف ستكون علاقتهم بالدنيا بعد ذلك ؟!
ولقد أصبح من السهل استخدام هذه الوسيلة في عصرنا هذا من خلال انتقاء المشاهد المرئية وعرضها على النفس وعلى الآخرين المراد توجيههم.
وإليك – أخي – مثالًا تطبيقيًا لاستخدام هذه الوسيلة في المحيط الدعوي:
كان على أحد الدعاة أن يقوم بإلقاء محاضرة عن الأخوة والحب في الله وأهميتهما الشديدة بالنسبة لأصحاب الدعوات، وقبل حلول موعد المحاضرة بدأ هذا الداعية في التفكير في محتوى المحاضرة، هل سيفعل مثلما فعل في المرات السابقة فيقوم بجمع الآيات والأحاديث الدالة على فضل الأخوة في الله وحقوقها وواجباتها مع مزجها ببعض القصص والنماذج المأثورة عن تاريخ السلف وماضي رجال الدعوة؟!
في هذه المرة لم يجد في نفسه أي رغبة في تكرار ما فعله سابقًا، وبخاصة أن المحاضرة ستلقى على أناس يعرفون هذا الكلام بل يحفظونه جيدًا، ورغم هذه المعرفة فإن العلاقات الأخوية بينهم ضعيفة يكسوها الجفاء والفتور.
ظل الداعية يفكر ويفكر، ويستعين بالله حتى هُدي إلي فكرة جديدة، فأسرَّها في نفسه ولم يُبدها لأحد، وقام بتجهيز ما يتطلبه لتنفيذها، وانطلق إلى المحاضرة.
جلس هذا الداعية في المكان المخصص له، وبدأ حديثه بالثناء على الله، والصلاة على رسول الله، ثم أخرج من جيبه (مسبحة) طويلة، وسأل الحاضرين عن اسمها، فأجابوه، وظل يحركها يمينًا ويسارًا أمام أعينهم طالبًا منهم تركيز أنظارهم إليها جيدًا.
وظل صامتًا للحظات، ثم أخرج من جيبه (مقصًّا)، وعند منتصف المسبحة قام بقص الخيط الذي يجمع حباتها، فانفرطت الحبات وتناثرت في أرجاء المكان وتحت أقدام الحاضرين، والجميع في ذهول من ذلك المنظر المثير.
في هذه اللحظات قطع الداعية صمته قائلًا لجلسائه : إن صمام الأمان لهذه الدعوة – بعد قوة الصلة بالله – : هو رابطة الأخوة، فالأخوة هي الحبل الذي ينتظم قلوب أبناء الدعوة، ويربط بعضها ببعض، فإذا ما وهن ذلك الحبل أو انقطع تفرقت القلوب وابتعدت، فيكون لذلك أسوأ الأثر على الدعوة.
ساد الصمت المكان، واستشعر الحاضرون الخطر، وفهموا الرسالة جيدًا، ثم انكبوا يجمعون حبات المسبحة ليعيدوا وصلها من جديد بخيط متين، وانطلقوا يعانق بعضهم بعضًا ويتصافحون في حب وود، العيون دامعة، والقلوب خافقة، والصدور سليمة صافية.
ثالث عشر: الاستفادة من الأحداث غير المألوفة
يزداد إرهاف الحس، وتأجج المشاعر، ويقظة العقل عندما تحدث أمام المرء أحداث غير مألوفة، ويصبح على درجة عالية من الاستعداد للتلقي، لذلك نجد القرآن الكريم بعد الأحداث الكبيرة التي مرت بالصحابة رضوان الله عليهم ينزل ليعلمهم ويوجههم ويربيهم حتى يستفيدوا من هذه الأحداث في مزيد من الاستقامة لله عز وجل، وبخاصة أن النفوس تظل مدة من الزمن متعلقة بتلك الأحداث، وتكون فيها على استعداد لتلقي التوجيهات المتعلقة بها، ومثال ذلك : تعقيب القرآن الطويل على حادثة الإفك وكيف يستفيدون منها بعد ذلك : ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور : 12]، ﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [النور : 17]، وتعقيبه على ما فعله حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله عنه – في محاولته -غير الناجحة – لإخبار أهل مكة بعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على السير إليهم ودخول مكة فاتحًا : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة : 1].
وكذلك التعقيب القرآني بعد غزوة بدر، وأحد، وبني النضير، والأحزاب، وما فيها من دروس وعبر وتوجيهات نحو مزيد من الاستقامة.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع الصحابة رضوان الله عليهم ويربط دومًا بين الحدث غير المألوف والمعاني الإيمانية الدالة عليه.
ففي يوم من الأيام وبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم بين صحابته إذ جاءه سَبْي، وفي هذا السبي امرأة تسعى ملهوفة مضطربة قد ضاع منها رضيعها، واستمرت على هذا الحال الشديد حتى وجدته، فأخذته وضمته إلي صدرها بشدة ثم أرضعته.
هذا المنظر شاهده الصحابة فأثر فيهم غاية التأثير، فلم يتركه صلى الله عليه وسلم يذهب سُدى، بل وجهه توجيهًا إيمانيًا، فقال لهم : « أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟!» قالوا : لا والله.قال : « الله أرحم بعباده من هذه على ولدها»[9].
.. إذن علينا أن نستفيد من الأحداث غير المألوفة التي تمر بنا في توجيه أنفسنا والآخرين نحو مزيد من الاستقامة لله عز وجل.
هل هناك مزيد من الوسائل؟
ليست الوسائل السابقة هي فقط التي تستثير المشاعر وتحفزها للقيام بالعمل الصالح، فهناك وسائل أخري كالصوت المؤثر، والإشارة باليد، والقَسَم، والمسابقات التنافسية، ولكننا – بفضل الله – اخترنا في هذه الصفحات أكثرها تأثيرًا وأيسرها استخدامًا.
كلمة أخيرة عن وسائل التحفيز
كما ذكرنا من قبل بأن علينا الاجتهاد في استثارة مشاعرنا وتحفيز أنفسنا قبل القيام بالعمل حتى يزداد نفعه في زيادة الإيمان وتحسين السلوك، ولقد تم ذِكر العديد من وسائل التحفيز ..
نعم، هناك بعض الصعوبة في استخدام كل هذه الوسائل للمرء مع نفسه، فبعضها يكون أكثر نفعًا عند توجيه الآخرين وتحفيزهم للقيام بعمل ما، ومع ذلك فمن الممكن استخدام الكثير منها مع أنفسنا.
[1] المكتوبات ص 487 .
[2] الإعجاز التأثيري في القرآن ص ( 188 – 190 ) د. مصطفى السعيد ،باختصار – مؤسسة أجيالنا .
[3] التعبير القرآني ص ( 454 ) عن تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ( 1/236 ) .
[4] متفق عليه أخرجه : البخاري ( 9/62 برقم 7075 )، ومسلم (4/1999، رقم 2586) .
[5] متفق عليه : أخرجه : البخاري (5/2104، رقم 5214)، ومسلم (4/2026، رقم 2628) .
[6] أخرجه أحمد (1/215، رقم 1842)، والحاكم (2/351، رقم 3250)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع ( رقم 5374) .
[7] أسك : أي صغير الأذنين .
[8] أخرجه مسلم (4/2272، رقم2957) .
[9] متفق عليه: أخرجه البخاري (5/2235، رقم 5653)، ومسلم (4/2109، رقم 2754).