مع المتدبرين

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة

الكاتب: محمد فتح الله كولن

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ 

كانت الملائكة قد علمت هذا بالعلم الخاص الموهوب له. وهذا يعني اطلاعهم – بمقياس ما-  على لوح المحو والإثبات.

ففي العلم الإلهي لا يوجد هناك علم بالأول ثم بالآخر، ولا علم بالجنين ثم بالإنسان الكامل، ولا بالإلكترون ثم النواة… الخ. لأنه علم يحيط بكل شيء في اللحظة نفسها. لذا فعندما نقول في موضوع أخذ العهد والميثاق بأن الله أخذ العهد والميثاق في عالم الأرواح أو في رحم الأم، فهذا قول صحيح إلا أنه ناقص ومحدود. وربما كان من الأفضل القول إنه لا يزال يأخذه، لأن عالمنا متغير في كل حين، أما بالنسبة للحق تعالى فالتغير غير وارد في حقه. والحقيقة أن قول “جددوا إيمانكم بـ”لا إله إلا الله” لا يمكن فهمه إلا عندما نفهم فكرة أخذ العهد والميثاق ضمن هذا العلم المحيط بما كان وبما هو كائن وبما يكون.

والآنلنعدإلىموضوعنامرةأخرى:

كانت الملائكة قد اطلعت من لوح المحو والإثبات على أن الإنسان سيفسد في الأرض وسيسفك الدماء، لذا استفسروا هذا الاستفسار، مثلما نقول عندما نقابل أناس سوء: لماذا خلق الله أمثال هؤلاء؟ ومن المحتمل أن الملائكة لم تطلع ولم تحط علما بخروج الأنبياء والأصفياء والأولياء “الذين يعدون شموس الإنسانية وبذورها” من بين الناس، ولهذا ألم يقل الله تعالى جوابًا لهم ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة : 30].

إن مثل هذه الخلافة المهداة من الله تعالى للإنسان كما يمكن حملها على أساس أن الله تعالى أعطى للإنسان حق التدخل بنسبة ما وبمقياس ما في جميع مناحي الوجود والحوادث، يمكن حملها أيضًا وتفسيرها على دوره في التعيين والتأثير على العلاقات بين الناس وبين الأمم. ومثل هذا الامتياز والهبة تعني السماح للإنسان في العمل والتصرف في كل شيء تصل إليه يده نيابة عن الله وباسمه ونائبًا عنه… يكون فرشاته في عملية تذهيب كتاب الوجود…

وبستانيًا في بستان الكرة الأرضية، وعامًا لا تحت إرشاداته في جميع شؤون الدنيا وأي رأي أو فكر حول أن الإنسان مالك أو صاحب حقيقي لأي شيء يعد تخطيًا للحد وجهلا.

لذا نجد أن الله تعالى يقول “إني جاعل” بد ً لا من “إني خالق” أي أنه في موضوع الخلق الأول تناول عملية الخلق ليس بذاته، بل من قبل صفاته، أي كأن جعله خليفة بناء وتشكيل من الدرجة الثانية، ليس أصالة بل نيابة كمراقب وناظر، أي أنه أودع فيه هذه الخلافة ليس كطبيعة أولية في خلقه، بل كصفة موجودة فيمن يحقق في نفسه شروط هذه الخلافة في الأرض. من المحتمل أن أحد الأمور الموجودة خلف قيام الملائكة بالاستفسار “أو بالأصح بالاستعلام” الخشية من اختلاط الأمور المعمولة نيابة بالأمور المعمولة أصالة.

مما جعل لوجود الخير بجانب الشر ووجود نوى البر بجانب نوى الإثم، ووجود القلب والإرادة والأحاسيس والمشاعر الطيبة والوجدان والضمير بجانب مشاعر الكره والشهرة والغضب والطمع… الخ أي لوجود نظام نفسي مركب في فطرة الإنسان وفي أغوار ماهيته دور في هذه الملاحظة الظاهرية للملائكة. وهذا ظاهر في الجواب الإلهي لهم ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة : 30] ، وهذا الجواب يشير إلى أن هذا الموضوع موضوع عميق لا يحيط به الملائكة علمًا، ويشير من جانب آخر إلى قبول الله تعالى عذر الملائكة في عدم الإدراك هذا.