القرآن الكريم هو كتاب الدلالة على الله.. ورسالة التعريف بالله.. ولهذا فهو المنهج الأسمى في تربية متبعيه على مراد الله.. هذه حقيقة أولى..
والنفس هي إحدى العقبات الجسام في سير عباد الله إلى ربهم سبحانه، وهي إحدى أكبر النوازع التي تنازع العبد في أعماله وطاعاته .. هذه حقيقة ثانية..
و تزكية النفس تعني ترويض النفس حتى تنقاد وتستلم لمراد الله..
ومستهدف تزكية النفس أمران في غاية الخطورة والأهمية، وهما:
الأول: تحقيق العبودية التامة والمطلقة والخالصة والمتجردة لله وحده..
والثاني: وهو في مقابلة الأول: وهو تحقق الواحد منا بالفقر التام والمطلق لله سبحانه وتعالى..
فالمستهدف هو تعظيم قدر الله في النفس. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: إلزام النفس حجمها ودورها ومكانها المناسب لها في غير تكلف، بل بسجية وتلقائية تامتين..
والله – سبحانه – في قرآنه – منهج التربية الأول والفريد – أبرز لعباده – الذين يريدون الوصول إلى الله سبحانه في الدنيا، والوصول إلى رضاه وما يلحق به من جنة يتنعمون فيها، وبعد عن النار دار العقاب والإيلام.. أبرز لهم وبين لهم طبيعة النفس وكيف تكون التربية النفسية..
دورنا:
وما على العباد الذين يريدون الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة الا أن يدوروا مع القرآن حيث دار، مستسلمين له استسلاما تاما، مقبلين عليه بإفلاس ليغنيهم، وبشعور بالضلال ليهديهم، وبدون مقدمات ولا خلفيات..
المنهج الأول والأوحد
فالذي يدرك معنى “منهج التربية الأول والأوحد” ويتفكر في كلمتي (الأول، الأوحد) يعرف أن الأول هو الذي لا شيء قبله، والأوحد هو الذي لا شيء معه..
وعلى هذا فلا يجوز أن يُقبل على القرآن أحد ليخدم قناعاته وتصوراته الخاصة، اللهم إلا إن كانت هذه القناعات والتصورات مُستقاة ابتداء من القرآن، ومن دخل على القرآن محملا بأفكار ومعتقدات وتصورات قَلَّ انتفاعه بالقرآن، هذا إن عافاه الله من الحرمان من الانتفاع – أصلا- ،
ومن أراد الاستدلال فلينظر إلى واقع الفرق والطوائف وأصحاب الأفكار الذين اتخذوا القرآن منهجا (ثانيا، وخلطوا معه أفهامهم وأفكارهم واجتهاداتهم التي لم تستقى ابتداء منه) كيف كانوا وإلى أين صاروا، وكيف كان دورهم في تاريخ الأمة والدين، وماذا كانت ثمارهم..
ولينظر في المقابل إلى الصحابة وكيف كانوا خلف القرآن، لا معه ولا أمامه، فأخذوه المنهج الأول والأوحد بحق، ليدرك – الناظر – كيف نالوا رضا الله في الدنيا والآخرة {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] .. وكيف كان هداهم وهديهم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم موصيا إيانا: “… فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ” وسنته صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه ما هي إلا تطبيقاتهم لتعاليم القرآن وهديه ومرادات الله منهم فيه..
فأول قواعد الانتفاع بالقرآن هي تلك القاعدة “أن يكون القرآن أمامنا ونحن خلفه.. أن يكون القرآن هو الأستاذ بحق، ونحن التلامذة بحق أيضا.. أن يكون القرآن هو الأول والأوحد، وأن نجرد نحن أفهامنا وقلوبنا وتصوراتنا حسب ذلك فلا نخلط به غيره ولا نسبقه بغيره”..
عود على القرآن و تزكية النفس:
فإذا ما سلمنا بما سبق، دخلنا إذا على القرآن لنربي أنفسنا ونحن مستسلمين، تاركين له قياد التربية والتوجيه والإصلاح ..
كيف يعرض القرآن أمر النفس و تزكية النفس؟
القرآن يُجلِّي حقيقة النفس و تزكية النفس من خلال محاور عدة، على كل منا أن ينتبه لها ليسعى بعد التعريف إلى التطبيق.. هذه المحاور هي:
- التعريف بالنفس، وطبيعتها، وصفاتها.. {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 – 10]..
- ذكر خطورتها وأنها سبب رئيس في خسارة الفرد والمجتمعات والأمم في الدنيا والآخرة.. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10] هذا مثال الفرد..
ومثال الأمم والمجتمعات قوله تعالى: {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ… } [القمر: 3] إلى قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 6، 8]..
- بيان مكانة تزكية النفس وأنها سبب الفوز والفلاح {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41]، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]..
- بيان المستهدف من تزكية النفس..
- العمل على إحراق مواضع شهوات النفس بالترغيب والترهيب {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 14، 15]
- ذكر تربية الله لنبيه على هذا الأمر {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]
- التحذير من أصحاب الهوى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]
ولعل هذه المحاور تحتاج إلى مزيد بيان، وتحتاج منا عند طرحها أن نتقلب مع الآيات بمشاعرنا رغبا ورهبا واستجابة كي تُثمر – بإذن الله – قوة دافعة لإحجام النفس والانتباه لها، مترجمة ذلك لأعمال الافتقار التام لله سبحانه من جانب، وأعمال المتواضعين الذين لا يرون أنفسهم شيئا من جانب آخر..
نسأل الله أن يزكي لنا أنفسنا وأن يجعلنا كما كان يقول نبيه صلى الله عليه وسلم في دعائه: “اللهم اجعلني أفقر خلقك إليك، وأغنى خلقك بك”
اللهم آمين
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين