صعوبة علاج العُجب:
بادئ ذي بدء علينا أن نعلم أن مرض الإعجاب بالنفس، وتضخم الذات من الأمراض التي يصعب علاجها، فنفس كل منا محبوبة لديه، وما تدعو إليه محبوب كذلك، وكما قال يوسف بن الحسين للجنيد: لا أذاقك الله طعم نفسك، فإن ذقتها لا تفلح.
وقال ابن عقيل: متى تخربق الإنسان به، قل أن يخرج من رأسه[1] – يعني العُجب.
ويؤكد الدبوسي على ذلك فيقول: والنجاة من العُجب عزيزة، فالنفس مدعية للملك والإمرة والإحسان والقدرة[2].
ومع هذا كله فلا كبير على الله عز وجل، وما أنزل سبحانه من داء إلا وأنزل معه دواءه.
المهم أن نُدرك خطورة هذا الداء، ونعترف بتلبسنا به – ولو بقدر يسير – ونستشعر حاجتنا الماسة للتخلص منه. قال تعالى: ﴿ إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾ [ النساء: 35 ].
فالله – عز وجل – هو الشافي لكل ما يمكن تصوره من أمراض، هذا الشفاء قريب ممن يحرص عليه ويطلبه، كما في الحديث القدسي: ” يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم “[3].
قال أبو الدرداء: لما أهبط الله آدم إلى الأرض، قال: يا آدم أحبني، وحببني إلى خلقي، ولا تستطيع ذلك إلا بي، ولكن إذا رأيتك حريصًا على ذلك أعنتك عليه[4].
فإن كان الأمر كذلك، فإن أول وأهم وسيلة للتخلص من هذا الداء: طلب العلاج من الله عز وجل، وسؤاله أن يتولى أمرنا، ويشفينا مما أصابنا، ويمحو – بقدرته – أي أثر لتضخم الذات، وأن يجعل أنفسنا في أعيننا صغيرة.
الإمداد بحسب الاستعداد:
علينا أن نشتكي إليه – سبحانه – من حالنا، وضعفنا، وخوفنا من أنفسنا، ونلح في ذلك مرات ومرات، ونتقصد أوقات الإجابة، وندعوه سبحانه وتعالى بتذلل وانكسار وخشوع.
ولنعلم جميعًا أن الإمداد بحسب الاستعداد، فعلى قدر حجم إنائك الذي تتقدم به، سيكون المدد والعطاء من الله عز وجل، فهو سبحانه كريم لا يرد سائلًا عن بابه، ولكن نحن الذين نظلم أنفسنا ونبخل عليها بعدم سؤاله.
عطايانا سحائب مرسلات
ولكن ما وجدنا السائلين
وكل طريقنا نور ونور
ولكن ما رأينا السالكينا[5]
فعلى قدر صدقنا وإلحاحنا في طلب العلاج من الله – عز وجل – ستكون الاستجابة منه سبحانه وتعالى ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾ [ الأنبياء: 3، 84].
الدواء المُر النافع :
من أهم صور العلاج الرباني لتخليص العبد من داء الإعجاب بالنفس ورؤيتها بعين التعظيم: أن يُخلِّي بينه وبين الذنب، فيتركه دون عصمة منه … يتركه لضعفه ونفسه الأمارة بالسوء، فيقع في الذنب فتهتز ثقته بنفسه ويعرف حقيقته.
قال جعفر بن محمد: علم الله عز وجل أن الذنب خير للمؤمن من العُجب ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب.
ويشرح ابن القيم هذا المعنى فيقول: إن العبد يفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه، ويتكبر بها، ويرى نفسه، ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول: فعلت، وفعلت، فيورثه ذلك من العُجب، والكبر، والفخر، والاستطالة، ما يكون سبب هلاكه[6].
فإذا أراد الله لعبد خيرًا ألقاه في ذنب يكسره به، ويعرفه قدره، ويكفي به عباده شره، وينكس به رأسه، ويستخرج منه داء العُجب والكبر والمنة عليه وعلى عباده .. فيكون هذا الذنب أنفع من طاعات كثيرة ويكون بمنزلة شرب الدواء ليستخرج به الداء العضال[7].
من هنا يتضح لنا قول ابن عطاء: رب معصية أورثت ذلًا وانكسارًا خير من طاعة أورثت عجبًا واستكبارًا.
ولقد سئل سعيد بن جبير: من أعبد الناس؟ قال: ” رجل اجترح من الذنوب وكلما ذكر ذنبه احتقر نفسه”[8].
وقال بعض السلف: أنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين، لأن زجل المسبحين ربما شابه الافتخار، وأنين المذنبين يزينه الانكسار والافتقار[9].
من هنا يتضح لنا أن من صور تربية الله للعبد: أن يتركه، ولا يعصمه من الوقوع في الذنب، فينكس رأسه، و يهتز صنمه، وهذا أحب إلى الله من فعل كثير من الطاعات، فإن دوام الطاعات وترك المنكرات قد توجب لصاحبها العُجب، قال الحسن: لو أن ابن آدم كلما قال أصاب، وكلما عمل أحسن، أوشك أن يُجَن من العُجب.
قال بعضهم: ذنب أفتقر به إليه أحب إلى من طاعة أدل بها عليه.
فالمقصود من زلل المؤمن ندمه، ومن تفريطه أسفه، ومن اعوجاجه تقويمه، ومن تأخره تقديمه[10].
انتبه :
هذا العلاج الرباني ليس معناه أن يستمرئ العبد الذنب، ويفرح به ولا يجد غضاضة في فعله، فالذنب – كما نعلم – له أضراره الخطيرة على فاعله من حرمان للتوفيق والرزق، ومن ضيق في الصدر، وتعسير في الأمور ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾[ الشورى: 30].
من هنا يتضح لنا أن هذا الدواء المر لا ينبغي للعبد أن يسعى إليه طمعًا في ثماره، فالله عز وجل أعلم بعباده، وأدرى بمن يصلحه هذا الدواء من غيره.
الحرمان من القيام بالطاعة:
ومن صور التربية الفريدة: أن يمنع سبحانه وتعالى عن العبد بابًا من أبواب الطاعة، صيانة وحفظًا له من تسلط نفسه وإلحاحها عليه ليحمدها ويرضي عنها.
أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء عن أنس – رضي الله عنه – مرفوعًا: يقول الله عز وجل: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح حاله إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من يطلب بابًا من العبادة فأكفه عنه كيلا يدخله العُجب إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني عليم خبير”.
سأل رجل سفيان الثوري وقال له: ما لي أطلب الشيء من الله تعالى فيمنعني ؟! قال: منع الله إياك عطاء، لأنه لم يمنعك من بخل ولا عدم ولا افتقار ولا احتياج، وإنما يمنعك رحمة بك.
فإن كان الأمر كذلك .. فأيهما أفضل للعبد: أن يقيم الليل مثلًا ويصبح مُعجبا، مفتخرًا بعبادته، أم ينام ويصبح نادمًا على تقصيره ؟!
يجيب عن هذا السؤال ابن القيم فيقول: وإنك إن تبيت نائمًا وتصبح نادمًا، خير من أن تبيت قائمًا وتصبح مُعجبا، فإن المُعجب لا يصعد له عمل، وإنك إن تضحك وأنت معترف، خير من أن تبكي وأنت مدل. وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المدلين[11].
وفي هذا المعنى يقول مورق العجلي: خير من العُجب بالطاعة ألا تأتي بالطاعة[12].
[1] العجب لعمر بن موسى الحافظ ص 24، نقلًا عن الفنون لابن عقيل ( 1 / 230 ) وتخربق الشيء: اتصل بعضه ببعض، والمراد هنا: ارتداه فاتصل بجسده كهيئة الثوب . . [2] الأمد الأقصى ص 156 . [3] رواه مسلم (4/1994، رقم 2577). [4] استنشاق نسيم الأنس لابن رجب ص 127 – مكتبة الخاني الرياض . [5] من قصيدة جواب شكوى لمحمد إقبال ” كتاب حديث الروح ” 82 – دار القلم – دمشق . [6] الوابل الصيب لابن القيم ص 8 – مكتبة المؤيد – الرياض . [7] تهذيب مدارج السالكين – 170 – وزارة العدل – الإمارات . [8] سباق نحو الجنان لخالد أبو شادي ص 41 – دار النشر والتوزيع الإسلامية، نقلًا عن حلية الأولياء ( 4 / 279 ) . [9] لطائف المعارف لابن رجب ص 24 – مؤسسة الريان – بيروت . [10] المصدر السابق . [11] تهذيب مدارج السالكين ص 120 . [12] البيان والتبيين للجاحظ 2 / 198 – دار الجيل – بيروت .