الكاتب: سيد قطب
إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته. الكون كتاب الله المنظور. والقرآن كتاب الله المقروء. و كلاهما شهادة و دليل على صاحبه المبدع ; كما أن كليهما كائن ليعمل.. و الكون بنواميسه ما زال يتحرك و يؤدي دوره الذي قدره له بارئه. الشمس ما زالت تجري في فلكها و تؤدي دورها ، و القمر والأرض ، و سائر النجوم و الكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها ، وجدة هذا الدور في المحيط الكوني.. و القرآن كذلك أدى دوره للبشرية ، و ما يزال هو هو. فالإنسان ما يزال هو هو كذلك. ما يزال هو هو في حقيقته و في أصل فطرته. و هذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان – فيمن خاطبهم الله به. خطاب لا يتغير ، لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر ، مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله ، و مهما يكن هو قد تأثر و أثر في هذه الظروف و الملابسات.. و القرآن يخاطبه في أصل فطرته و في أصل حقيقته التي لا تبديل فيها و لا تغيير ; و يملك أن يوجه حياته اليوم و غدا لأنه معد لهذا ، بما أنه خطاب الله الأخير ; و بما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل.
و إذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا:هذا نجم قديم “رجعي ? ” يحسن أن يستبدل به نجم جديد “تقدمي ! ” أو أن هذا “الإنسان” مخلوق قديم “رجعي” يحسن أن يستبدل به كائن آخر “تقدمي” لعمارة هذه الأرض !!!
إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك ، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن. خطاب الله الأخير للإنسان.
وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد “غزوة بدر” – في السنة الثانية من الهجرة – إلى ما بعد “غزوة أحد” في السنة الثالثة. وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية. و فعل القرآن – إلى جانب الأحداث – في هذه الحياة ، وتفاعله معها في شتى الجوانب.
والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة ; وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة ; وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة. مع استبطان السرائر و الضمائر ، و ما يدب فيها من الخواطر ، و ما يشتجر فيها من المشاعر ، حتي لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث، ويعايش الأمة التي كانت تخوضها و تتفاعل و إياها. و لو أغمض الإنسان عينيه فلربما تراءت له – كما تراءت لي – شخوص الجماعة المسلمة رائحة غادية، بسماتها الظاهرة على الوجوه ، ومشاعرها المستكنة في الضمائر. و من حولها أعداؤها يتربصون بها ، و يبيتون لها ، و يلقون بينها بالفرية والشبهة، و يتحاقدون عليها ، و يجمعون لها ، و يلقونها في الميدان ، و ينهزمون أمامها – في أحد – ثم يكرون عليها فيوقعون بها.. وكل ما يجري في المعركة من حركة و كل ما يصاحب حركاتها من انفعال باطن و سمة ظاهرة.. و القرآن يتنزل ليواجه الكيد و الدس ، و يبطل الفرية و الشبهة ، و يثبت القلوب والأقدام ، و يوجه الأرواح و الأفكار ، و يعقب على الحادث و يبرز منه العبرة ، و يبني التصور و يزيل عنه الغبش ، و يحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر و الكيد الماكر ، و يقود خطاها بين الأشواك و المصايد و الأحابيل ، قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكن الصدور..
و من وراء هذا كله تبقى التوجيهات والتلقينات التي احتوتها السورة خالصة طليقة من قيد الزمان و المكان ، و قيد الظروف و الملابسات ، تواجه النفس البشرية ، و تواجه الجماعة المسلمة – اليوم و غدا – و تواجه الإنسانية كلها ، و كأنها تتنزل اللحظة لها ، و تخاطبها في شأنها الحاضر ، و تواجهها في واقعها الراهن. ذلك أنها تتناول أمورا و أحداثا و مشاعر وجدانية و حالات نفسية كأنما كانت ملحوظة في سياق السورة.. بل هي ملحوظة قطعا في تقدير العليم الخبير بالنفوس و الأشياء و الأمور.
و من ثم يتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان و في أي زمان. و هو دستور هذه الأمة في أي جيل و من أي قبيل. و هو حادي الطريق و هادي السبيل على توالي القرون.. ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور..