لابد أن يقوم الدعاة والمربين بالتواجد بين الناس وممارسة معاني الإسلام معهم حتى يتم التغيير المنشود، ولقد كان هذا هو دأب الرسل -عليهم الصلاة والسلام- تأمل قوله تعالى في قصة هود عليه السلام (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ) [هود:58].. وفي قصة شعيب عليه السلام: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) [الأعراف:88].. وفي قصة موسى- عليه السلام-: (اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ) [غافر:25].
فالملاحظ في هذه الآيات قوله تعالى عن اتباع كل رسول (الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ (وهي مهمة زائدة على «آمنوا به»، فلفظ (مع) يعطى دلالة على المعية والصحبة والمعايشة كمرحلة ضرورية بعد الإيمان (به)، وهذا يحمل في طياته أعظم الدلالات على أن كل رسول كان يقوم على تربية من يؤمن بالدعوة، ولا يكتفي بإبلاغهم فقط.
يقول الشيخ عبد الستار فتح الله: أيضًا: « يورد القرآن العظيم لفظ (مع) بياناً لعلاقة المؤمنين برسلهم في مختلف العصور».. فالعلاقة بين المؤمنين ورسلهم لم تكن مجرد رابطة الإيمان بدين واحد فقط، وإنما هي تَجَمعٌ مترابط الأصول والفروع، والرأس والأعضاء، يشد بعضه إلى بعض برباط الإيمان أولاً، ثم المعية والصحبة المستقرة على وجه الانقياد والتبعية للدعوة ثانياً، مع ما يحمله ذلك من توحيد في الوجهة والسلوك، والمواقف، والعمل لنصرة دين الله.. والاستمرار على ذلك حتى يأتي وعد الله الحق، أو يموت الرسول والمؤمنون وهم على محجة الطريق، ونور اليقين».
لا بديل عن المعية والصحبة والتربية -إن أردنا تغييراً حقيقياً- ومِن ثَم فإن على جميع الدعاة والعاملين للإسلام أن يكون ذلك هو هدفهم الأساسي وهم يتعاملون مع الناس.
عليهم أن يوحدوا جهودهم ولا يبعثروها في غير هذا المجال حتى تبدأ الأمة في اليقظة الحقيقية.
لابد وأن يكون عمل كل من يريد خدمة الإسلام من خلال التواجد بين الناس.. يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، وليس ذلك فحسب، بل عليه أن يكون هدفه من تواجده بينهم هو التربية وإحداث أثر إيجابي دائم في ذواتهم من خلال المحاور الأربعة للتربية والتي سيأتي ذكرها لاحقًا بإذن الله .
إن المطلوب من خلال التواجد بين الناس ليس فقط مساعدة الفقراء أو البحث عن عمل للعاطلين، أو مواساة المبتلين، أو عقد الندوات، أو…، فكل هذا مع أهميته إلا أنه لابد وأن يوضع في سياق المنظومة التربوية التي تهدف إلى تحقيق العبودية لله، ومن ثَمَّ التغيير الشامل والدائم في شخصية المسلم وألا يتم التعامل معها على أنها جُزُرٌ منعزلة.
من هنا نقول بيقين: إن معركة الإصلاح والتغيير الحقيقي للأمة روحها التربية، ولابد أن يتم تطويع جميع الوسائل لخدمة هذا الأمر، فإن تركنا هذه المعركة فسنظل في أماكننا نراوح بين أقدامنا، ونشتكي من كثرة المحن والابتلاءات التي تمر بالأمة، وسيعلو صراخنا ونحيبنا، وترتفع أيادينا بالدعاء والتضرع إلى الله كلما أصاب المسلمين جرح جديد، وسيعلو صوت الدعاة في الفضائيات وعلى المنابر بأهمية العودة إلى الله، وتغيير ما بالنفس، ثم تهدأ العاصفة ويستقر الجرح في جسد الأمة ويتعود على وجوده الجميع، ثم يتكرر الأمر بعد ذلك مع جرح جديد وهكذا.
فإن قلت: ولكن هل من الضروري تربية الأمة جميعاً؟
ليس المطلوب أن يكون جميع الأفراد على مستوى عال ورفيع من الصلاح، فسيظل هناك السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه، ولكن يبقى من الضروري توافر الحد الأدنى للصلاح في الأمة.
فالمطلوب هو إصلاح المجتمع بأن تشيع فيه روح الإسلام ومعانيه، وأن يغلب عليه أنوار الإيمان ومظاهر العفة والتراحم، والتعاون على البر والتقوى، ونكران الذات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، واستشعار المسئولية تجاه الأمة والبشرية، وفي المقابل تختفي منه مظاهر السلبية والأنانية والإعجاب بالنفس، والتفسخ الأخلاقي والإباحية..، وهذا لن يتم إلا بجهد تربوي يبذله الدعاة والعاملون للإسلام مع الناس.. كلٌ يعمل في محيطه.
وإننا عندما ننظر في أعمال المصلحين الناجحة على مر تاريخ الأمة نجد أنها كانت تمر من طريق التربية التي تهدف إلى تكوين أمة جديدة متحررة من أسر قيود العبودية لغير الله ..
ومن هذه النجاحات ظهور جيل صلاح الدين، والذي من خلاله تم تحرير بيت المقدس، وكسر شوكة الصليبيين – بإذن الله -.. ولقد سبق ظهور هذا الجيل الميمون عمل تربوي ضخم قام به نور الدين زنكي ومن قبله من العلماء المصلحين كأبي حامد الغزالي وعبد القادر الجيلاني، وكذلك دولة المرابطين التي حكمت المغرب العربي عشرات السنين، وكان أساس قيامها جيل المرابطين الذي تم إعداده وتربيته على الإسلام .
وفي التاريخ القريب، وبعد إسقاط الخلافة العثمانية وتفكيك الأمة تنادى المصلحون في كل مكان عن سبيل إعادتها وقيامها مرة ثانية، وظهرت التوصيات التي تشخص الداء وتصف الدواء، لكنها كانت توصيات نظرية لا يمكن تنفيذها لأن الأمة كانت – ولا زالت – مريضة ..
وفي وسط هذه الأجواء ظهر الشاب حسن البنا ليقول كلمته بأنه لا سبيل لعودة الخلافة مرة ثانية وقيادة العالم إلا من خلال بناء الأمة من جديد عن طريق التربية والتكوين، حتى تتحول المعاني النظرية إلى واقع عملي .
يقول رحمه الله حاكيًا تطور تلك الفكرة في نفسه وذلك من خلال تقييمه لعمله في نشر الدعوة الإسلامية وتأكده بأن ذلك وحده لا يكفي لإحداث التغيير، بل لابد من سلوك طريق التربية والتكوين :
وقَفْتُ نفسي منذ نشأت على غاية واحدة، هي إرشاد الناس إلى الإسلام حقيقة وعملًا ..
.. ظلت هذه الخواطر حديثًا نفسانيًّا، ومناجاة روحية، أتحدث بها في نفسي لنفسي، وقد أُفْضِي بها إلى كثير ممن حولي، وقد تظهر في شكل دعوة فردية، أو خطابة وعظية، أو درس في المساجد إذا سنحت فرصة التدريس، أو حثّ لبعض الأصدقاء من العلماء على بذل الهمة ومضاعفة المجهود في إنقاذ الناس وإرشادهم إلى ما في الإسلام من خير.
ويستطرد قائلًا: ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي حوادث عدة ألهبت نفسي، وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس.
وبدأ في طريقه لترجمة هذه النداءات إلى واقع عملي، فكان تأسيسه لدعوة الإخوان المسلمين لتقوم بهذا الدور..