﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ [التين : 1 – 8]
سلك المفسرون في وجه اختيار هذه الأشياء من ثمر وشجر ، وجبل وبلد ، والحلف بها: مسلكهم المعروف في سائر أقسام القرآن، فعدُّوا للأولين منافع غذائية وطبيَّة ، وآيات الله فيهما، وللآخرين فضائل ومناقب ، ولا حاجة لربط قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ … ﴾ وما بعده: بالأول ، على قولهم.
أما أنا فلا أرى – والله أعلم بأسرار كتابه – إلا أن الله أقسم بهذه الأشياء استشهادا ، ومن التين والزيتون إشارة إلى منبتهما وأرضهما التي يكثران فيها ، وهي أرض الشام، وهي مهد النبوة والأنبياء ومنبتهم، ومهبط الوحي والملائكة، وموطيء أقدام أولي العزم من الأنبياء فضلا عن البشر ، ومنهم عيسى ابن مريم عليهما السلام ، ومشهد مِنن الله سبحانه ونعمه على الإنسان ، واصطفائه إياه ، وشاهد عين وسمع بما خصّ الله الإنسان من نِعم، وخلقه في أحسن تقويم خُلقا وخَلقا.
وليس هذا القول ببدع من التفسير وإلحاد ، بل سبقنا إليه من قبل حبر الأمة فقال: التين : بلاد الشام ، وربما قال : بلاد فلسطين ، وقال أيضا : بيت المقدس.
( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) أي صيرناه أسفل من كل سافل، فهذا الجنس الذي كان منه محمد وموسى وعيسى والنبيون والصديقون والشهداء والصالحون : انحط بعض أفراده بأعمالهم حتى صاروا أرذل من الحيوانات العجماوات والحشرات والجمادات ، فكان منهم من ادعى الألوهية كفرعون، ومنهم من قلب الفطرة، ومنهم من مسخ الإنسانية، ومنهم من اخترع من الجرائم وابتدع من المآثم مالا يخطر على قلب بهيمة وسبع ولا يزال منهم من يبتكر أنواعا وبدعا من أساليب القتل والفتك بالإنسان ، والآت الدمار والهلاك ، والغازات السامة ، والسموم القاتلة ، وأنواعا من الخلاعة والعري والتهتك ما تخجل منه البهائم.
ثم استثنى الله – إنصافا – منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أي حافظوا على ما رزقهم الله من فطرة طاهرة زكية ، وزكوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح ﴿ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ غير مقطوع.
﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴾ أي: ما يحملك على التكذيب بالجزاء مع أنك شاهدت مظاهره في هذه الحياة فرأيت كيف يبلغ هذا الإنسان منزلة لا يبلغها الملائكة ، ثم كيف ينحط بأعماله حتى يصير أسفل سافلين .
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾: في معاملته مع الإنسان حسب أعماله وإيتاء كل ذي حق حقه ، من الدرجات العليا ، أو الدركات السفلى ؟ بلى ! إنا على ذلك لمن الشاهدين . ويشهد معنا تاريخ الإنسانية ، الماضي والحاضر، وقد شهدت قبلنا هذه الأمكنة ، ولاتزال تشهد.