الكاتب: الأستاذ الدكتور مصطفي عبد الواحد
في هذا الكتاب الكريم ما يقنع العقل ويهز الوجدان ويحرك الشعور ويفتح العيون لترى آيات الله سبحانه التي بثها في الآفاق “وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ – وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ”. وإن إيمان المفكرين الغربيين بالإسلام في السنين الأخيرة لدليل واضح على أن العقيدة الإسلامية وحدها هي القادرة على أن تمد الإنسان باليقين الذي لا ريب فيه وبالحق الذي لا يقبل الانتفاء مهما وجه إليه من الشبهات والأكاذيب
ولكن المسلمين قصروا في عرض العقيدة الإسلامية على شبابهم عرضا يعمق حقائق الإيمان ويخالط شغاف القلوب.
فهل يجوز في هذا العصر أن نعلم ناشئتنا عقيدة الإسلام بالحفظ والتلقين بعبارات تحمل طابع عصور مضت ولا نقدم للناشئ التشويق والإقناع؟
إن علينا أن نخاطبه على قدر عقله وأن نكتفي بإثارة تأمله في وجوده المادي المحسوس في خلق بدنه وفي طعامه وفي شرابه وفي صحته وسقمه.
وكان من الخير في هذا المقام ان نتبع طريقة الخليل إبراهيم عليه السلام التي حكاها الكتاب الكريم حين عرف قومه الفرق بين أصنامهم الذليلة العاجزة وبين الإله الواحد الخالق الرازق الشافي المحيي المميت.
قال تعالى:”قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ” {الشعراء}.
وهكذا أوضح الخليل إبراهيم عليه السلام حقائق التوحيد في مواجهة هؤلاء الجاحدين الذين عكفوا على تماثيل يعبدونها وهي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئا، وبين لهم أن الله سبحانه هو الإله الحق الذي يجيب الدعاء ويمنح الشفاء ويرزق عباده ما يحتاجون من ماء وغذاء ومغفرته سبحانه يوم القيامة مناط الطمع والرجاء فأنى يصرفون؟ وكيف يفكرون؟
ولو سلكنا هذا المسلك القرآني في تثبيت حقائق الإيمان في القلوب وربطها بالشعور والوجدان وتأسيسها على الملاحظة والتأمل .. لأقمنا بناء العقيدة في نفوس الشباب قويا متينا لا يداخله ريب ولا تنال منه وسوسة ولا تؤثر فيه فتنة.
إن طريقة القرآن في بناء أساس العقيدة واليقين بوجود الله سبحانه هي الانتقال من المحسوس إلى المعقول والابتداء بمعرفة ظواهر الكون انتهاء إلى الاستدلال بها على وجود الخالق الواحد العظيم.
إن القرآن يعلمنا أن الإيمان بالله ليس صعبا على العقول ولا بعيدا عن فطرة الإنسان بل إن كتاب الكون المفتوح صفحات واضحات في دلالتها على وجود الله سبحانه شاهدات على وحدانيته وكماله نجد هذا المعنى في أكثر سور القرآن وخاصة في السور المكية التي عنيت بتثبيت أساس العقيدة وتأكيد حقائق الإيمان نقرأ قول الله تبارك وتعالى:(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) {الأعراف:54} .
فهذه آية واحدة تضمنت تعريف العباد بخالقهم العظيم فأي عقل بأبى قبول الإيمان بوجود الله سبحانه وهذه آياته في الأرض وفي السماء ومن ذا الذي ينازع في أمر الكواكب والنجوم أو يدعي أن له شأنا في حركتها أو نظام سيرها؟
ومن هنا ينتهي العقل السليم بعد تأمل هذه الدلائل إلى الإيمان بتلك الحقيقة التي تضمنتها الآية في ختامها “أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين”.
لقد سلك القرآن مسالك كثيرة في إيقاظ العقول، ولفت الأنظار للاستدلال علي وجود الخالق- سبحانه- عن طريق التأمل في قضية الخلق والوجود..ولتلك القضية مدي بعيد في الكتاب الكريم، إذ هي عبادة الفكر وجلاء البصر، وزاد العقل والقلب، كما قال الحق سبحانه:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ -الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) {آل عمران:190-191}.
فقد ذكرت مادة الخلق في هاتين الآيتين ثلاث مرات: فجاءت في صيغة المصدر مرتين، وفي صيغة الفعل مرة واحدة.
ويلاحظ أن جملة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، قد ذكرت بنصها مرتين في هاتين الآيتين. وذلك لتأكيد الاهتمام بتأمل الآيات المبثوثة التي يجتليها العقل في هذا الكون العظيم، الذي يبهر ويروع بما فيه من آماد فسيحة، ومجالات غريبة.. في أعماق البحار..؛ وآفاق الفلك، وقمم الجبال ، وسهول الوديان..؛ وأجناس المخلوقات ما بين جامد ومتحرك..؛ وعاقل ومسخر لا عقل له.. فالمراد هنا أن يلتفت العقل أعظم التفات إلي خلق السماوات والأرض، ولهذا جاءت جملة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بهذا النص في آيتين متصلتين..أولاهما تؤكد وجود الآيات في خلق السماوات والأرض،وثانيتهما تصور المؤمنين وهم يتفكرون في هذا الخلق ويستجلبون هذه الآيات(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
وبعد أن يبلغ بهم التفكير في مداه، وتمتلئ عقولهم وقلوبهم بدلائل القدرة الباهرة، تفيض ألسنتهم تسبيحًا لله وتمجيدًا، فيقولون:(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).