من ثمار الإيمان :
تاسعًا : اتخاذ القرارات الصعبة
يتعرض المرء في حياته لمواقف تحتاج منه إلى اتخاذ قرارت قد ينتج عنها نقص يلحق به، أو أذى يُصيبه، أو ضيق الآخرين منه، لذلك تجده مترددًا قبل اتخاذها، ويظل يُفكِّر فيها، ويوازن بين الواجب الديني الذي يحُثُّه على فعل الشيء وبين الأضرار التي قد تترتب على فعله، مما قد يؤدي في النهاية إلى ترك القيام به، فيُفوِّت على نفسه مصالح كثيرة في دنياه وآخرته.
.. هذا الحال يعكس ضَعف القلب وعدم تمكن الإيمان منه، وفي المقابل؛ كلما ازداد الإيمان قَوِي القلب وسهل على صاحبه اتخاذ القرارات التي قد يكون لها من الناحية الظاهرية تأثير سلبي عليه.
ومن أمثلة هذه القرارات: الشهادة على النفس أو الآخرين، الاعتراف بالخطأ، قبول النُصح، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأصدقاء وأصحاب المناصب، الإنفاق في وقت العُسرة، التضحية بما يحبه المرء..
نماذج مشرقة:
وإليك أخي القارئ بعض الأمثلة العملية من حياة الصحابة، والتي تؤكد هذا المعنى:
جلس عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ بن سلول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماء، فقال: بالله يا رسول الله، ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أَبِي، لعل الله يُطهر بها قلبه. فأفْضَلَ له، فأتاه بها، فقال له أبوه: فهلَّا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها، فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أما أذِنْت لي في قتل أَبِي؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل ترفق به وتُحسن إليه»؟[1].
-وقال عروة: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك ذلك، فقال: لمَّا أتتني الوفود بالسمع والطاعة دخلت في نفسي نخوة، فأحببت أن أكسرها، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها [2].
-عن أنس أن رجلًا من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم ، قال: عذت معاذًا، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فحمل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويُقدم ابنه معه، فقدما، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضربه، فجعل يضربه بالسوط ، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب، فوالله ضربه ونحن نُحب ضربه فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يُرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو ، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه، فقال عمر لعمرو: مُذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أحرارًا ؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم يأتني[3].
– وعن ابن عمر قال: اشتريت إبلًا وارتجعتها إلى الحمى فلما سمنت قدمت بها، فدخل عمر السوق فرأي إبلًا سمانًا فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل لعبد الله بن عمر ، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر : بخ بخ، ابن أمير المؤمنين، فجئت أسعى، فقلت: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ قلت: اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال: ارعو إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر، اغدُ إلى رأسِ مالك، واجعل الفضل في بيت مال المسلمين[4].
إسداء النصيحة :
..بعد انتصارات خالد بن الوليد المتتالية في العراق بعث إليه أبو بكر الصديق برسالة تهنئة ونصيحة فقال فيها:
«فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة ، فأتمم يتم الله لك، ولا يدخلنك عُجب فتخسر وتُخذل، وإياك أن تدل بعمل فإن الله له المَنّ وهو ولي الجزاء».
..وعندما أمَّر عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص على حرب العراق أرسل إليه وأوصاه فقال:
لا يغرنَّك من الله أن قِيل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب رسول الله، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا الطاعة، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعاقبة ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بُعث إلى أن فارقنا، فالزمه فإنه الأمر. هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك، وكنت من الخاسرين[5].
الانتصاف من النفس:
..كان لعثمان بن عفان رضي الله عنه عبد، فقال له: إني كنت عركت أُذنك فاقتص مني، فأخذ بأذنه ثم قال عثمان رضي الله عنه: اشدد، يا حبذا قصاص الدنيا، لا قصاص الآخرة [6].
..وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السوق ومعه الدرة، فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي، فقال: أمط عن الطريق. فلما كان في العام المُقبل لقيني فقال: يا سلمة، تُريد الحج؟ فقلت: نعم. فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ست مائة درهم وقال: استعن بها على حجِّك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك. قلت: يا أمير المؤمنين ما ذكرتها. قال: وأنا ما نسيتها[7].
**********
ومن ثمار الإيمان
عاشرًا: الشعور بالسكينة والطمأنينة
الإيمان الحق بالله عز وجل يعني: الثقة به سبحانه ربًّا قادرًا على فعل أي شيء.. قريبًا مجيبًا ..حاضرًا غير غائب.. عظيمًا جليلًا.. رؤوفًا رحيمًا..
وكلما تمكنت هذه الثقة في قلب العبد تبددت منه المخاوف التي ترهب الناس: كالخوف من سطوة الظالمين والخوف من المستقبل المجهول وما تخبئه الأيام.
وكلما ضعف الإيمان، وقلت الثقة زادت المخاوف، وظهرت أمارات الهلع والفزع والاضطراب عند التعرض لابتلاء أو نقص أو تضييق، ألم يقل سبحانه ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ﴾ [آل عمران : 151] .
فالمشرك بالله يعاني من ضعف بل انعدام الثقة به سبحانه ، وتظهر الثمرة المُرة لهذا الشرك عند النقص والابتلاء: رعبًا وفزعًا وهلعًا.
.. يقول ابن تيمية: الخوف الذي يحصل في قلوب الناس (كالخوف على فوات الرزق، والخوف من المستقبل المجهول) هو الشرك الذي في قلوبهم[8].
وفي المقابل تجد المؤمن هادئ النفس، رابط الجأش، مطمئن القلب عند تعرضه للمحن والبلايا والأقدار المؤلمة ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ [آل عمران: 173 – 174].
﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب : 22].
من هنا ندرك معنى القول بأن : « حسبنا الله ونعم الوكيل » هي كلمة المؤمنين عند مواجهة المواقف الصعبة .
2010-04-20
وكلما ازداد الإيمان ازدادت الثقة بالله حتى تصل لذروتها فتصبح ثقة مطلقة يقينية أشد رسوخًا من الجبال الرواسي، وتظهر آثارها وقت الأحداث المتشابكة والعصيبة، كمثل ما حدث لموسى عليه السلام عندما خرج مع بني إسرائيل فرارًا من فرعون لكنه أدركهم بجنوده ليصبح البحر أمامهم وفرعون وراءهم فيقول أتباعه : ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء : 61] فيجيب عليهم بهدوء الواثق في ربه: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء : 62] .
وفي رحلة الهجرة وبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في غار ثور إذ بالمشركين يصلون إلي فم الغار، فيخاف أبو بكر خوفًا شديدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الدعوة، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله لو أن أحدهم طأطأ بصره رآنا.. إن قُتلتُ فإنما أنا رجل واحد، وإن قُتلتَ أنت هلكت الأمة، ليفاجأ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتأثر بهذه المخاوف، بل كان هادئ النفس ، رابط الجأش ، على ثقة مطلقة بالله عز وجل، وبدا ذلك واضحًا من إجابته على ما أثاره أبو بكر من مخاوف : اسكت يا أبا بكر ، اثنان الله ثالثهما.. لا تحزن إن الله معنا [9].
طمأنينة القلب :
من ثمار الإيمان العظيمة تلك الطمأنينة والسكينة التي يسكبها في القلب، فتجده ساكنًا عند جريان الأحداث سكون الواثق بالله ، المطمئن به – سبحانه – لذلك عندما ذهب عمار بن ياسر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بأنه تحت وطأة التعذيب والإيذاء أُكره على النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر آلهة الكفار بخير ، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه سأله: «فكيف تجد قلبك ؟»، فقال عمار: أجد قلبي مطمئنًا بالإيمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن عادوا فعد »[10].
..وعندما أسرت الروم عبد الله بن حذافة السهمي فقال له الطاغية: تنصَّر وإلا ألقيتك في البقرة (وعاء من نحاس)، قال: ما أفعل.. فدعا بالبقرة النحاس فمُلئت زيتًا ، وأُغليت، ودعا رجلًا من أسرى المسلمين فعُرض عليه النصرانية، فأبى، فألقاه في البقرة فإذا عظامه تلوح، وقال لعبد الله : تنصَّر وإلا ألقيتك ، قال: ما أفعل، فأمر به أن يُلقى في البقرة فبكى ، فقالوا: قد جزع، قد بكى . قال : ردوه ، فقال عبد الله: لا ترى أني بكيت جزعًا مما تريد أن تصنع بي ولكني بكيت حيث ليس لي إلا نفس واحدة يُفعل بها هذا في الله، كنت أحب أن يكون لي من الأنفس عدد كل شعرة فيَّ ، ثم تُسلَّط عليَّ فتفعل بي هذا ، قال: فأعجب منه، وأحب أن يطلقه، فقال: قبِّل رأسي وأطلقك، قال: ما أفعل ، قال : قبِّل رأسي وأطلقك وأطلق معك ثمانين من المسلمين، قال: أما هذه فنعم، فقبل رأسه وأطلقه وأطلق معه ثمانين من المسلمين، فلما قدِموا على عمر بن الخطاب قام إليه عمر فقبَّل رأسه، قال: فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمازحون عبد الله فيقولون: قبلت رأس علج، فيقول لهم : أُطلِق بتلك القبلة ثمانون من المسلمين[11].
[1] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17/199، وأخرج بن أبي شيبة في مصنفه حديثا بمعناه (ج 3/ ص 538 حديث رقم: 6627). [2] صلاح الأمة في علو الهمة للدكتور سيد حسين العفاني (5/435 ).
( [3] ) إسناده ضعيف: رواه ابن عبد الحكم في (فتوح مصر)، كنز العمال (36010).
[4] السنن الكبرى للبيهقي (6 / 147، 12156)، وسنن سعيد بن منصور ، ومصنف ابن أبى شيبة، وأورده المتقي الهندي في كنز العمال (36006). [5] تاريخ الطبري (4/306) ، البداية والنهاية (7 / 42)، الكامل في التاريخ لابن الأثير (1 / 408)، وحياة الصحابة ( 1/548 ). [6] حياة الصحابة 1/537 ، نقلًا عن «الرياض النضرة في مناقب العشرة» للمحب الطبري (2/111). [7] تاريخ الطبري – (2 / 578)، وحياة الصحابة (1/536). [8] رسائل ابن تيمية في السجن. [9] أخرجه البخاري (3 / 1427، رقم 3707)، والقصة بتمامها في سيرة ابن هشام، والرحيق المختوم . [10] أخرجه ابن سعد ( 3 / 1 / 178) ، وأبو نعيم في « الحلية » ( 1 / 140) ، والطبري (14 / 182)، وأخرجه الحاكم (2 / 357) وصححه، ووافقه الذهبي، والكاندهلوي في حياة الصحابة (1/222). [11] أسد الغابة لابن الأثير (1/597 ، 3/11 ، 212)، معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني (11 / 352 رقم 3608)، تاريخ دمشق – (27 / 359).