إن شهر رمضان هو شهر الإرادة القوية التي تورث الحرية الصحيحة، وهو شهر الروحانية الكاملة التي تورث السخاء والجود بأعراض المادة، وأحب أن نتعرف في هذه الكلمات كيف أن رمضان هو شهر التلاوة والقرآن..
يروى عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار؛ فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم الليل؛ فشفعني فيه، قال: فيشفعان»[1].
والملازمة بين رمضان وتلاوة القرآن واضحة في كثير من الأحاديث، حتى فيما يتداوله العامة من العبادات.
فهل كان هذا التلازم؛ لأن أول آية من القرآن نزلت في رمضان، وهو صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء؟ أم لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر التلاوة في رمضان، وصارت تلك سنة المسلمين من بعده؟ أم لأن الناس جرى عرفهم على قضاء ليالي رمضان في استماع القرآن والجلوس إليه؟ أم لأن صلاة القيام في رمضان عمادها القرآن؛ فهو عبادة الليل، والصوم عبادة النهار؟
قد يكون كل ذلك جاء في تعليل أن رمضان هو شهر القرآن، وهناك معنى آخر تنضح به النفس ويتراءى في مرآة الروح، ويبدو أمامها واضحًا جليًّا ظاهرًا قويًا.
أليس الصوم طهارة للنفوس ونقاء للأرواح، يسمو بها إلى الملأ الأعلى، ويرتفع بها إلى أفق الملكية؛ حيث يتصل بعالم غير هذا العالم؟
وأليس القرآن نبعًا فياضًا ينضح بهذه الروحانية، ويذكر النفوس بالملأ الأعلى أيضًا، ويجلو أمامها أسرار ملكوت السماوات والأرض؟ بل هو وديعة الملأ الأعلى وهديته لهذا العالم الأدنى؛ فهو حبل الله المتين، طرفه بيد الله، وطرفه بيد الناس؛ فالنفس إذا صفت وترقت بالصوم رأت القرآن معنى ساميًا من معاني الملأ الذي ارتقت إليه؛ فأدركت مراتبه، واستجلت معانيه، واستوضحت أسراره، وأخذت منها بطرف ما كانت لتصل إليه لولا أنها هُذِّبت بالصوم، وترقت به إلى عالم الحقيقة والنور، فعلى ضوء النور الذي تشرق به جوانب النفس بالصوم يكشف الصائم عن الحقائق السامية التي يزخر بها بحر القرآن الفياض؛ ولهذا كان رمضان شهر القرآن، ولهذا نزلت أول آية على الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وهو أصفى ما يكون نفسًا، وأطهر روحًا بالتجرد والخلوة والتعبد والرياضة والتحنث الليالي ذوات العدد، وقد كان ذلك في شهر رمضان؛ ولهذا كان الصيام والقرآن شفيعين للعبد يوم القيامة.
القرآن بين الأولين والآخرين:
كان القرآن في أمة خلت عند سلفنا الصالحين ربيع قلوبهم، وقرة أعينهم، وحياة أرواحهم، ومشكاة صدورهم، وطيب أفواههم، وشهوة ألسنتهم، وغذاء عقولهم وأفكارهم، يقرءونه بالعشي والإصباح، ويتلونه بالليل والنهار، وهم حين يقرءونه يفهمون، وحين يفهمون يعملون، وحين يعملون يخلصون؛ فيكشف الله عن قلوبهم الحجب، ويفك عن أفئدتهم الأقفال والأغلال؛ فيدركون ما يريد القرآن الكريم منهم، ويتوجهون إلى ما وجههم إليه، وما هو إلا سعادة الدنيا ونعيم الآخرة {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
ثم جاء بعد أولئك أمم هذه الأعصار؛ فوقفوا من القرآن موقفًا غريبًا، وسلكوا به مسلكًا عجيبًا، وكان حظهم منه ألفاظًا تردد، ونغمات تنوع، وألحانًا تُسمع، وأوقاتًا تُقضى في غير عظة ولا اعتبار، إنهم يقرءون القرآن كثيرًا، ويستمعون إليه كثيرًا، ويتلونه في كل مناسبة، ويعمرون به بيوتهم، ويزينون به حفلهم، ويحفظونه في صدورهم، ويحملون المصاحف في جيوبهم، كل ذلك مستفيض فيهم، لم يقصروا فيه ولم يغفلوا عنه، ولكن ما بالهم لا يسيرون كما يسيرهم القرآن، ولا يتوجهون إلى ما يوجههم إليه، ولا يعملون بأمره ونهيه، ولا يميزون بين تحليله وتحريمه، ولا يتأثرون بزجره ووعظه، ولا يقيمون وزنًا لحدوده وأحكامه، وكأنه لغيرهم نزل، وكأن سواهم كُلِّف فقهه وحمايته، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟!
ألست تقف موقف الدهشة والعجب حين ترى شخصًا يؤمن بالقرآن ويدين به، ويعتقد أنه دستور الله لخلقه وأمره لعباده، والميثاق الذي واثقهم به، ثم يسمع قول الله تعالى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]؛ فيتعامى عن مقاصدها، ويتغافل عن مطالبها، ويكون كل أولئك أحب إليه من الله ورسوله، ثم يريد بعد ذلك أن يدفع الله أمره، ويرفع عنه نقمته، ويلح في الدعاء بذلك ليل نهار؛ أفترى هذا تأثر بالقرآن أو انتفع به؟!
وألست تقف موقف الدهشة حين ترى قومًا يخاطبهم ربهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 90 – 92]، ثم هم بعد النداء يتخذون الخمر تحية أضيافهم، وعنوان رقيهم، ويتخذون الميسر سلوة نفوسهم وقضاء أوقاتهم؟!
وألست تقف موقف الحيرة الأسيفة حين ترى قومًا يناديهم ربهم بقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. ثم تطغى عليهم بعد ذلك المجاملات الكاذبة، فتضعف نفوسهم عن التفريق بين العدو والصديق، والمحب والمبغض، فيتخبطون في عاطفتهم، ويخلطون في حبهم وبغضهم؟!
وألست تعجب كل العجب حين تعلم أن الله – تبارك وتعالى – يقول للمسلمين في ثلاث آيات من سورة واحدة في موضع واحد: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، ثم يردف ذلك كله بآية هي أقسى ما يكون في تهديد من حاد عن أحكام الله – تبارك وتعالى – {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، ثم هم بعد ذلك يرجعون إلى أهوائهم، ويتحاكمون إلى غير كتاب ربهم، وفيه الحكم الفصل لو كانوا يعقلون؟!
وألست تعجب كل العجب أن حين ترى أمة يناديها بارئها بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]؛ فيقابلون هذا الأمر الصادع والحكم الجازم بالفرقة والاختلاف، والتشيع والتحزب والانقسام على أنفسهم طرائق قددًا، وطوائف بَددًا، يتراشقون بالسباب، ويتنابزون بالألقاب، والعدو قد اقتحم عليهم الباب.
وماذا أقول لك؟ أمامي الآن كتاب الله – تبارك وتعالى – وأقسم لك أنه خيل إلي أني كلما تلوت آية من آياته رأيت المسلمين في هذا العصر في واد وهي في واد آخر.
سارت مشَرِّقة وسرت مغرِّبًا شتان بين مشرق ومغرب
أيها المسلمون.. إن هذا القرآن شافع مشفع، وفاصل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، فتتبعوا أوامره وأقيموا حدوده، واعملوا بتعاليمه، ولا تدعو شهر رمضان يمر بكم دون أن يترك في النفوس قبسًا من نوره، وأثرًا من تهذيبه، فيرفع عنها حجب الغفلة ويكشف لها عن مواطن العبرة، فتكون من العارفين العاملين، فإن لم تفعلوا؛ فاذكروا يومًا يخاصمكم فيه نبيكم صلى الله عليه وسلم حين ينادي ربه: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
[1] رواه أحمد، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 7329.