بمداومة قراءة القرآن بتدبر وتفهم تبدأ خريطة الإسلام تُرسم في الذهن، ويُعاد تشكيل العقل من جديد، ويُبنى فيه اليقين الصحيح.
ومع التغيير الذي يحدث في العقل فإن القرآن كذلك يؤثر في المشاعر ويوجهها تجاه المولى عز وجل مما يزيد الإيمان، وينصلح القلب فتنصلح الجوارح تبعا له.
.. هذا العمل الصالح الذي تقوم به الجوارح سيواجه عقبة كبيرة تعمل على منع وصول أثره إلى القلب، هذه العقبة هي الشيئ الذي وضعه الله داخلنا ليمتحننا به..
إنها النفس التي جُبلت على حب الراحة والشهوات والتي لا تفكر إلا في لذتها الآنية، ولا تنظر إلى عواقب أفعالها ولو كانت بعد لحظات، كالطفل الذي لا يفكر إلا فيما يريد وإن كان سيتسبب في هلكته.
أنواع الشهوات :
والشهوات التي تسعى النفس دائما للحصول عليها إما أن تكون مادية مثل ما هو مذكور في قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾ [آل عمران: 14].
ومنها ما هو معنوي كحب الرفعة عمن حولها وتميزها على أقرانها، وأن تُحمد على أفعالها وترتفع منزلتها في عيون الآخرين.
فالنفس تُريد في كل لحظة من اللحظات استيفاء شهوة من شهواتها في حين أنها تنفر من كل تكليف يُتعبها أو عمل لا تخرج منه بشيء من حظوظها.
من هنا كان استثقالها للقيام بأي طاعة، فإذا ما دخل الإيمان القلب وارتفع مستواه فيه، وبدأ في صراعه مع هوى النفس واستطاع أن ينتصر عليه.. فإن إرادة القلب ستكون طوع أمره وستأمر الجوارح بنتفيذ ما يُريد من أعمال صالحة.
ولكن هل ستضع النفس سلاحها وتستسلم لقرار القلب وتنتظر معركة أخرى مع الإيمان أم سيكون لها توجه آخر؟!
عندما تنهزم النفس وهواها أمام داعي الإيمان، وتتأكد أنه لا حيلة لها إلا الاستسلام فإنها لا تترك هذا الأمر هكذا يتم رغما عنها، بل يتحول اهتمامها إلى كيفية الاستفادة من هذا العمل لخدمة حظوظها.
ومن صور ذلك: إلحاحها على صاحبها ودعوته لإظهار عمله أمام الناس ليعظم قدره في أعينهم فيمدحوه، ويوقروه، ويعظموه… وهذا من أحب الأمور لدى النفس، بل يُعدّ من أحلى الأشربة لديها.
فإن لم يكن هناك فرصة لإظهار العمل أمام الناس كان هناك طريق آخر أمام النفس يخدم حظوظها، ألا وهو سعيها بأن تجعل العمل كبيرا في عين صاحبها فتلح عليه كي يحمدها على قيامها به فيؤدي ذلك إلى إعجابه بعمله، بل قد يصل به الأمر أن يظن أن له قدرا عند الله بهذا العمل، وأنه أفضل من غيره، وشيئا فشيئا تعظم في عينه فيغتر بها ويتكبر على الآخرين.
ذلك كله يؤدي إلى إحباط العمل وعدم وصول أثره إلى القلب، بل يزيده بعدا من الله عز وجل ومقتا، لأنه قد وقع في الشرك الخفي والذي يعد من اخطر أنواع الشرك.
فالذي يعمل العمل وهو يريد به وجه الله وفي نفس الوقت يريد أن ترتفع منزلته عند الناس فقد أشرك بالله الناس.
والذي يعمل ويرى أن نفسه هي التي أعانته عليه فقد أشرك بالله نفسه.
الشرك الخفي:
قال بن تيمية: «الرياء شرك بالناس، والعجب شرك بالنفس».
فكلا الأمرين ضد الإخلاص، فيُحرم القلب بذلك ثمرة العمل، بل إن ثمرته تخدم جانب الهوى أكثر، وتُقوِّي داعيه في القلب، وهو ما يسميه العلماء بالشهوة الخفية، والتي قد تكون هي الدافع للعمل الذي يبدو أمام الناس أنه عمل صالح.
فأمر النفس إذن خطير، جد خطير، ولابد أن يشتد حذرنا منها وانتباهنا إليها حتى لا تضيع علينا ثمرة أعمالنا.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 264].
من هنا يتبين لنا أن جهاد النفس على لزوم الصدق والإخلاص هو الضلع الثالث لمثلث التغيير، فكل ما سبق ذكره في جانبي العقل والقلب لن يؤتي أكله إلا إذا اكتمل بتزكية النفس وجهادها وترويضها على طاعة الله بصدق وإخلاص.
فإذا كان الأمر بهذه الخطورة، فما هو دور القرآن في تغيير النفس والسيطرة عليها واليأس من أن تكون في يوم من الأيام سببا لدفعنا للعمل الصالح الخالص لوجه الله ؟!
يتجلي دور القرآن العظيم في تغيير النفس من خلال عدة محاور أهمها تعريف الناس بحقيقة أنفسهم ومدى ضعفها، وتعريفهم بالله عز وجل وحقه عليهم، وإرشادهم إلى الوسائل التي تعينهم على جهاد أنفسهم، وإلزامها طاعة الله بصدق وإخلاص.
القرآن يعرفنا بأنفسنا:
من أهم الأمور التي تعين العبد على جهاد نفسه هو معرفته بها معرفة حقيقية، وعدم رضاه عنها، والتأكد أنها لن تأمره بشيء إلا إذا كان لها حظ فيه.
فمن أخطر الأشياء على العبد وثوقه بنفسه، ورضاه عنها، واعتقاده أنه يأتيه خير من قِبلها. لذلك نجد القرآن كثيرا ما يعرفنا بأنفسنا وبخطورتها، وبضرورة الحذر الدائم منها.
يقول تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: 128].
ويقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7 – 10].
ويذكرنا القرآن بحقيقة نفوسنا فيقول تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: 53].
ولا يكتفي القرآن بذكيرنا بحقيقة أنفسنا، بل يضرب لنا الأمثال، ويقص علينا القصص التي تُبيِّن خطورتها، وكيف استطاع الشيطان أن يستغل جهلها، وولوعها باستيفاء حظوظها العاجلة، وعدم نظرها للعواقب.
فنجده يقصُّ علينا قصة ابني آدم، ودور النفس فيها ، يقول تعالى: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ﴾ [المائدة: 30].
وإخوة يوسف الذين ألقوا بأخيهم في البئر فقال لهم أبوهم يعقوب عليه السلام: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ [يوسف: 18].
وامرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه، واعترفت بأن نفسها هي السبب في ذلك ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: 53].
وبنو إسرائيل الذين فعلوا الكثير مما يغضب الله عز وجل.. قال تعالى: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [المائدة: 80].
والقرآن كذلك يُذكرنا بحقيقة ضعفنا أمام أنفسنا، وأننا لا نستطيع الصمود أمام إلحاحها، كما قال تعالى على لسان نبيه يوسف – عليه السلام -: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: 33].
معرفة حق الله :
من المحاور الرئيسية في قضية تغيير ما بالنفس معرفة حق الله على عباده، وأن جميع البشر مدينون لله عز وجل، ومهما اجتهد العبد في أداء الطاعات فلن يوفي جزءا يسيرا من هذا الحق.
هذه الحقيقة عندما تستقر في كيان الإنسان فإن من شأنها أن تُنسيه عمله الصالح، بمعنى أنه لن يظن أن له مكانة عند الله بهذا العمل أو أنه يستحق به دخول الجنة ودرجاتها العلى، بل يعمل العمل ويجتهد فيه ثم يسغفر الله بعد القيام به لشعوره بأن حق الله عليه أعظم مما يفعل وأنه إن لم تتداركه رحمة الله وعفوه فسيهلك، كمن أدان شخصا بمبلغ كبير من المال مثلا مليون دينار، ثم قام هذا الشخص بالاجتهاد في العمل وفي نهاية كل شهر قام بسداد درهم واحد.. ما هو شعور هذا الشخص وهو يقدم الدرهم لدائنه ؟!.. هل شعور الفخر والإعجاب بهذا الدرهم، أم أنه سيُنكِّس رأسه وهو يعطيه له، ويشعره بالتقصير الشديد في حقه ويستعطفه ويرجوه أن يسامحه على تقصيره ؟! بل يرى أن قبوله له محض فضل منه وإحسان.
هذا لو كان الدَيْن يساوي ذلك فقط، فما بالك بدين الله علينا الذي تعجز قدرات العقل عن إحصائه ؟!!
فالله عز وجل له حقان على العبد: حق طاعة أوامره، وحق شكر نعمه.
والمتأمل في القرآن يجد مساحة كبيرة ومعتبرة تتحدث عن حق الله على عباده وبخاصة دَيْن النعم، وتذكرهم ببعض تفاصيل هذا الحق وواجبهم نحوه سبحانه وتعالى.. يقول تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53].
جوانب النعم :
ويعدد لنا القرآن بعضا من جوانب نعم الله علينا لنستشعر حجم الدَّين الذي في رقبتنا، مثل:
- نعمة الإيجاد. قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78].
- ونعمة الإمداد: مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30].
- ونعمة التسخير. مثل قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 13].
- ونعمة الحفظ. مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ [الأنبياء: 42].
- ونعمة الهداية. مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ [الليل: 12]، وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ [النحل: 9].
- ونعمة التوفيق. مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [هود: 88].
- ونعمة الثبات: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83].
- ونعمة العصمة من الفجور: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 21].
- ونعمة العفو: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 14].
- ونعمة الأمن والستر، ونعمة سبق الفضل، والعافية، والإمهال..
والقرآن بعد أن يُعدِّد لنا بعضا من جوانب النعم الإلهية على العباد يُطالبنا بشكر هذه النعم، قال تعالى: ﴿فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 144].
وشكر النعم يبدأ بمعرفة حق الله ودَينه المستحق علينا. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [فاطر: 3].
وكلما توسع العبد في ذكر نعم ربه عليه ازدادا يقينا بأنه لن يستطيع أن يؤدي حقها، وأنه سبحانه وتعالى لو حاسبنا على نعمه وطالبنا بحقه لهلكنا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب»([1]).
فلا أمل لدينا إلا في رحمة الله ومغفرته وتجاوزه عن حقه، وعدم محاسبتنا على نعمه علينا..
عفو الله أو النار:
من هنا كان القرآن دوما يُذكِّر بهذه الحقيقة، وبأن سعينا مهما بلغ فلن يوجب بمفرده النجاة من النار فضلا عن أن يدخل الجنة، وأن هذه النجاة وهذا الفوز لن يحدث إلا إذا تفضل الله علينا ولم يحاسبنا على نعمه، وتجاوز عن حقه، وعن تقصيرنا في أدائه كما قال تعالى على لسان أحد الناجين من النار: ﴿وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ [الصافات: 57].
وليس معنى هذا ترك العمل والاجتهاد، فصاحب الدَين الذي يرى استهتارا من المدين وعدم مبالاته بالسداد، يجعله يُعرض عنه ويغضب منه ولا يُفكر في إسقاط دينه، بخلاف من يراه مجتهدا في السداد – مع عدم قدرته على الوفاء – فإنه قد يتجاوز عنه.
قال تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56].
فالعمل والاجتهاد في فعل الخيرات ما هو إلا وسيلة لنيل الرحمة والمغفرة والتعرض للعفو والتجاوز.
لذلك نجد القرآن يطالبنا بالاجتهاد في العمل للتعرض للرحمة والمغفرة الإلهية والتي إذا تمت للعبد فسيتبعها بمشيئة الله دخول الجنة، فضلا ورحمة منه سبحانه.. قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].. ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 218].
من فوائد النظر في حق الله :
كثرة التفكر والنظر في حق الله ودينه علينا له كثير من الفوائد التي من شأنها أن تعيننا على تحري الصدق والإخلاص في أعمالنا.
فمن هذه الفوائد:
1- عدم رؤية العمل الصالح أو الاعتماد عليه بل استصغاره، والنظر إليه بعين النقص مهما كان اجتهاد العبد، فالذي يجتهد ويجتهد ثم يُسدد بضعة دراهم من دينه البالغ المليون دينار لن يشعر بأنه قدَّم شيئا يُذكر، فتراه دوما مستصغرا ما يقدمه لدائنه طامعا في عفوه.
2- عدم احتقار الآخرين أو الشعور بالأفضلية عليهم، فالكل مَدِين لله عز وجل ولا يسع الجميع سوى عفوه وإلا فالنار مصير من لم يدركه هذا العفو..
فالذي يقدم خمسة دراهم لصاحب الدَّين الكبير لن يشعر بأنه أفضل ممن قدم درهما أو نصف درهم، فالكل مقصِّر، والكل يستحق العقوبة، ولا أمل إلا في السماحة والعفو.
3- الخوف الدائم من عدم قبول العمل: فمن الطبيعي ألا يقبل صاحب الدين الكبير سداد جزء يسير منه، فإن قبله فهذا محض فضل وإحسان منه.
لذلك كان الصالحون يجتهدون ويجتهدون ثم يخافون ألا يقبل منهم. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60].
4- الحذر الشديد من السكون إلى النفس أو الإعجاب بها حتى لا يتعرض العبد لمقت الله ومعاملته بالعدل لا بالإحسان، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾[التكاثر: 8].
5- الاجتهاد في نسيان العمل بعد أدائه وعدم التحدث به أمام الآخرين.
6- سؤال الجنة استجداء لا استحقاقا، فمن تفضل الله عليه، وقبل عمله وتجاوز عن حقه لديه، وعفا عنه، أدخله الجنة ورفعه في درجاتها بهذ العمل القليل الذي أداه.. رحمة منه – سبحانه – وفضلا.
وسائل عملية :
ومع تذكير القرآن الدائم لنا بحق الله علينا فإنه يدلنا كذلك على وسائل عملية تجعلنا دوما مستشعرين لهذا الحق، منها :
1- ذكر النعم وإحصاء جوانبها :
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [فاطر: 3].. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ [المائدة: 11].. وقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 69].. فالتذكر الدائم لنعم الله عز وجل والعمل على إحصائها وكتابتها من أهم وسائل معرفة حق الله عز وجل علينا ومن أكبر المعينات كذلك على شكره سبحانه.. قال تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 11].
2- ربط النعم بالمنعم وحمده عليها :
مما يعين على دوام تذكر حق الله علينا، ربط أي نعمة جديدة بالمنعم العظيم وسرعة حمده عليها لينغلق الباب سريعا أمام النفس، فلا تلح على صاحبها كي ينسب النعمة إليها، أو يحمدها عليها.. قال تعالى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [المؤمنون: 28].
وقوله: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19].
3- الاستغفار بعد أداء الطاعة:
فالاستغفار بعد القيام بالطاعة دليل على استشعار العبد تقصيره في حق الله، وأن هذه الطاعة لا تليق بجلاله ولا توفي حقه.. فبعد الإفاضة من عرفات علينا بالاستغفار، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 199].
وبعد قيام الليل كذلك، قال تعالى: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 17].
يتبع في الحلقة القادمة بمشيئة الله ،،،
([1]) متفق عليه: البخاري ( 5/2394 برقم 6171 )، ومسلم (4/2205، رقم 2876).