كان هناك شخص حريص على تنمية ذاته… كثير القراءة والاطلاع… واسع المعرفة، منضبطا في التزامه بأوامر الشرع، مسارعا في الخيرات، له جهد يبذله في دعوة الناس إلى الله، وكان حديثه شيقًا مؤثرًا
يحمل دوما الجديد والجديد.
واستمر على ذلك الحال سنوات طويلة، ثم بدا له أن ينتقل من عمله الذي يعمل فيه ساعات قليلة إلى عمل آخر يحقق من خلاله طموحه الوظيفي الدنيوي، وكانت ضريبة هذا الانتقال استهلاك هذا العمل لأغلب وقته، لينعكس ذلك على حياته والتزامه وجهده الدعوى، فالوقت مستهلك، والجسد منهك، ومن ثم لا يكاد يجد وقتا يمد فيه عقله بالعلم النافع، ولا قلبه بالإيمان، ولا نفسه بالترويض والجهاد، فكانت النتيجة أن تغير حاله بالسلب، وأصبح جهده في الدعوة قليل، وأثره ضعيف، إن تكلم في الدعوة فكلامه مكرر يفتقد الحماس والروح… تغيرت اهتماماته، وطموحاته لتتجه أكثر وأكثر نحو الأرض والطين.
هذه الحالة التي تزداد نسبة وجودها يوما بعد يوم تدفعنا للحديث عن ضرورة استمرارية التربية.
إلى متي التربية؟!
يقول الأستاذ محمد قطب: «التربية لا تنقطع ولا تتوقف عند فترة معنية، ولا ينصرف الناس عنها إلى أمر آخر، لأن الأمر الذي استوجبها دائم لا ينقطع ولا يتوقف»([1]).
فطالما أن الإنسان حي فهو بحاجة إلى تغذية مستمرة لمكوناته الأربع؛ فالتوجيه الإلهي بعبادة الله حتى الموت “وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ” [الحجر: 99]، يستلزم استمرار التعاهد والإنماء ودفع المضار عن المكونات الأربع حتى تتحقق العبودية الحقة لله عز وجل وتستمر حتى الممات.. تأمل قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا” [النساء: 136]، (أي حافظوا على إيمانكم، استمروا فيه، لا تغفلوا عنه.. لا تفتروا عن المحافظة عليه.. لا تفتروا عن معاهدته ورعايته وتغذيته وتقويته والحرص عليه) ([2]).
ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان يخلق في القلوب كما يخلق الثوب فجددوا إيمانكم»([3]).
يقول د. عبد الستار فتح الله في تعليقه على هذا الحديث:
والحديث من جوامع الكلم، وهو على إيجازه يشتمل على حقيقة نفسية مؤكدة، وعلى تشبيه يجعلها كالمحسوس، وعلى أمر صريح بتجديد الإيمان.
انظر إلى ثيابك -مثلا- كم يُبذل فيها غسلا، وإصلاحا، ومحافظة، ورتقا، ثم تجديدًا شاملاً إذا بليت، وهذا يتكرر مع الساعات والأيام، والشهور والأعوام، ولا يمل منه أحد.
ولا شك أن (الإيمان) أولى وأجدى وأبقى، فينبغي أن تتعهده ليظل على إشراقه في القلوب([4]).
(إن القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور… فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر، تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم، فلابد من تذكير هذا القلب.. ولابد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة) ([5]).
عتاب للصفوة:
لعل في عتاب الله -عز وجل- للصحابة ما يجعلنا نجتهد دوما في الإمداد التربوي المستمر لذواتنا.. هذا العتاب نجده في قوله تعالى: “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ” [الحديد: 16].
وقد روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه من الخشوع، فنزلت الآية.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، والآية مدنية بالإجماع، ولعل المقصود (هجرتنا) بدل (إسلامنا) كما يقول د. عبد الستار فتح الله، وذلك للجمع بينها وبين الرواية التالية:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن الكريم([6]).
فمهما تقدم عمر المرء، ومهما ارتقى في سلم المسئولية فلابد له من الاستمرار في التربية حتى يستمر قيامه بحقوق العبودية لله عز وجل،وأن تشمل هذه التربية المكونات الأربع (العقل والقلب والنفس والبدن)
([1]) مكانه التربية في العمل الإسلامي ص 28- دار الشروق.
([2]) المصدر السابق ص 26.
([3]) رواه الإمام أحمد وغيره، وخلق الثوب بمعني بَليَ.
([4]) آن الأوان لتجديد الإيمان ص 6.
([5]) في ظلال القرآن 6/3489.
([6]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/279- مكتبة العبيكان.