كما أن التكبر هو أن يكون المرء عند نفسه كبيرًا، فيظهر ذلك في تعاملاته مع الآخرين، فإن التواضع عكس ذلك: أي أن تكون عند نفسك صغيرًا، وأن تترجم تعاملاتك مع الآخرين هذه الحقيقة.. فالتواضع إذن حالة قلبية يعيشها العبد مع نفسه وتظهر آثارها في سلوكه.
قال أبو سليمان: لا يتواضع عبد حتى يعرف نفسه.
وقال الحسن: التواضع أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلمًا إلا رأيت له عليه فضلًا[1].
وقيل لأبي يزيد: متى يكون الرجل متواضعًا؟ فقال: إذا لم ير لنفسه مقامًا ولا حالًا، ولا يرى أن في الخلق من هو شر منه.. فمن يرى لنفسه قيمة فليس له من التواضع نصيب، وتواضع كل إنسان على قدر معرفته بربه عز وجل ومعرفته بنفسه[2].
ويؤكد الإمام الشافعي على نفس المعنى فيقول: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلًا من لا يرى فضله[3].
ضرورة التواضع:
يقول المحاسبي: اعلم أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل وحده، وأن العبد إذا تكبر صار ممقوتًا عند الله، وقد أحب الله منه أن يتواضع، وقال له: إن لك عندي قدرًا مالم تر لنفسك قدرًا، فإن رأيت لنفسك قدرًا، فلا قدر لك عندي, فمن عقل ذلك: فلابد وأن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه، وهذا يزيل الكبر والعُجب من قلبه، وإن كان يرى نفسه مقصرًا.
فبمثل هذا زال التكبر عن الأنبياء عليهم السلام إذ علموا أنه من نازع الله تعالى رداء الكبر قصمه.
وقد أمرهم الله أن يصغروا في أنفسهم حتى يعظم عند الله محلهم، فهذا أيضًا مما يبعث على التواضع لا محالة.
قال صلى الله عليه وسلم: ” إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد “[4].
التواضع علم وعمل:
فإن كانت حقيقة التواضع هي أن يرى العبد نفسه صغيرًا، فإن هذا المفهوم يحتاج إلى عمل يرسخ مدلوله في القلب، ويعمق معناه في النفس، وهذا هو ما أشار إليه أبو حامد الغزالى بقوله: لا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل[5].
وتجدر الإشارة إلى أن تكلف المرء لأفعال المتواضعين دون أن يكون منطلقها هذه الحالة القلبية من استصغار النفس قد يؤدي إلى عكس المطلوب، فيكون هذا التواضع الظاهري سببًا لزيادة إعجاب المرء بنفسه واستعظامه لها، فيعجب بتواضعه، ويظن أن عنده شيئًا ليس عند غيره.
قال ابن عمر: رأس التواضع أن ترضى بالدون من المجالس، لا لحظ نفسك، فقد يجلس أحدهم عند النعال ومعه من الكبر ما الله به عليم، وما حمله على مجلسه ذلك إلا ليقال: إنه متواضع[6].
من هنا يتضح لنا أن استخدام هذه الوسيلة في العلاج ينبغي أن تكون بعد استخدام الوسائل السابقة، والتي تضع في القلب بذرة معرفة العبد بربه ومعرفته بنفسه، ليأتي التواضع بعد ذلك فينميها ويزيدها رسوخًا وعظمًا.
صور وأعمال التواضع:
للتواضع صور كثيرة منشؤها استصغار المرء بنفسه.. هذه الصورة تشمل كل العلائق: سواء كانت علاقة العبد بربه، أو علاقته بنفسه، أو علاقته بالآخرين.
مع الله
تواضع العبد في علاقته مع ربه، ومعاملته له تنطلق من رؤيته لحقيقته وأصله، وأنه مخلوق عاجز، ضعيف، جاهل.. أصله هو التراب والماء المهين.
وتنطلق معاملة العبد لربه كذلك من استشعاره لعظمته – سبحانه – وجلاله وكماله، وعظيم فضله عليه، وأنه لا غنى له عنه طرفة عين.
هذه الحالة القلبية ينبغي أن يترجمها العبد في صورة تذلل ومسكنة وخضوع لله عز وجل، وإظهار عظيم افتقاره وحاجته إليه، وأنه مهما أوتي من أشكال الصحة والقوة والجمال والجاه والمال فهو كما هو، عبد ذليل لرب جليل، وأن هذه الأشياء لم تغير من حقيقته شيئًا.
.. وهذا ما كان يفعله رسولنا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان.. كانوا يظهرون خضوعهم وانكسارهم لربهم كلما ازدادوا رفعة في الدنيا.
فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يدخل مكة فاتحًا بعد أن أخرجه منها أهلها.. فماذا كان حاله وقت دخوله؟!
أقبل صلى الله عليه وسلم حتى وقف بذي طوى، وهو معتجر ببرد حبرة. فلما اجتمعت عليه خيوله، ورأى ما أكرمه الله به، تواضع لله حتى إن عنثوته (ذقنه) لتمس واسطة رحله[7].
وهذا النجاشي يلبس ملابس رثة، ويجلس على التراب بعد أن بلغه انتصار المسلمين في بدر، فقال له جعفر بن أبى طالب: ما بالك تجلس على التراب ليس تحتك بساط وعليك هذه الأخلاق، قال: إنما نجد فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام: إن حقًا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعًا عندما أحدث لهم من نعمة، فلما أحدث الله نصر نبيه، أحدثت هذا التواضع[8].
وأخرج ابن أبى حاتم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما رفع سليمان عليه السلام رأسه إلى السماء تخشعًا، حيث أعطاه الله ما أعطاه ” .
كيف دخل عمر بن الخطاب بيت المقدس؟!:
وهذا عمر بن الخطاب يدخل بيت المقدس فاتحًا.. فماذا كان حاله؟!
كان بينه وبين الغلام الذي معه مناوبة.. فلما قرب من الشام كانت نوبة ركوب الغلام، فركب الغلام وأخذ عمر بزمام الناقة فاستقبله الماء في الطريق، فجعل عمر يخوض في الماء، ونعله تحت إبطه اليسرى، وهو آخذ بزمام الناقة، فخرج أبو عبيدة وكان أميرًا على الشام، وقال: يا أمير المؤمنين إن عظماء الشام يخرجون إليك، فلا يحسن أن يروك على هذا الحال، فقال عمر: إنما أعزنا الله بالإسلام، فلا نبالي بمقالة الناس[9].
وعند موته رضي الله عنه قال لابنه عبد الله: اطرح وجهي يا بني بالأرض لعل الله يرحمني.. قال: فمسح خديه بالتراب[10].
ألا ترى في هذا الموقف مدى تذلل عمر وانكساره لربه، وهو يمسح خديه بالتراب، وكيف كانت آماله كلها متعلقة برحمته سبحانه؟!
وعلى نفس الدرب سار عمر بن عبد العزيز الذي ما كان يسجد إلا على التراب[11].. وكان يلبس ثيابًا عجيبه عند قيامه الليل!
عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: كان لعمر بن عبد العزيز سفط، فيه دراعة من شعر وغل، وكان له بيت في جوف بيت، يصلي فيه لا يدخل فيه أحد، فإذا كان في آخر الليل، فتح ذلك السفط ولبس تلك الدرعة، ووضع الغل في عنقه، فلا يزال يناجي ربه ويبكي حتى يطلع الفجر، ثم يعيده إلى السفط[12].
يتبع،،،
[1] إحياء علوم الدين 3/529. [2] المصدر السابق 3/530. [3] سير أعلام النبلاء 10/99. [4] رواه مسلم (4/2198، رقم 2865). [5] إحياء علوم الدين3/558. [6] صلاح الأمة في علو الهمة 5/452. [7] الزهد لابن مبارك ص 53 في زيادات نعيم بن حماد. [8] عدة الصابرين ص 212. [9] تنبيه الغافلين للسمرقندي ص 141 – مؤسسة التاريخ العربي – بيروت. [10] الزهد لابن المبارك ص 146. [11] الرسالة القشيرية ص 146 – دار الخير – بيروت. [12] سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص 235 – دار مكتبة الهلال – بيروت .