التربية الإيمانية

حقيقة الإيمان

هل المطلوب لكي نحصل الإيمان و نتمتع بثماره أن نؤدي الصلاة على وقتها ، وأن نُطيل المكث في المسجد ، ونُكثر من القيام بالأعمال الصالحة المختلفة ؟

.. مع الأهمية القصوى لهذه الأعمال إلا أننا نُشاهد من يقوم بها أو ببعضها ، ولا نرى آثارًا مثل التي ذُكرت سابقًا أو حتى قريبة منها ، بل قد نجد العكس .. قد نجد شخصًا يحافظ على أداء الصلوات في المسجد ، ويُصلي النوافل ، ويُكثر من ذكر الله بلسانه ، ومع ذلك تجده شديد الحرص على ماله ، يحسب كل شيء بأدق تفاصيله .. يُفكر دومًا في تحصيل حقِّه أولًا قبل حقوق الآخرين ، شديد التركيز مع الدنيا ، إذا ذهب لشراء شيء ما تجده – في الغالب – ينتقل بين الحوانيت للبحث عن الأرخص ثمنًا ، فإذا ما استقر على حانوت ما ، تجده يدخل في صراع مع البائع لتخفيض الثمن إلى أقصى ما يُمكن تخفيضه .

قد يُعامل زوجته وأولاده معاملة حادَّة وجافة ، فيُحاسبهم على كل شيء ، ويُدقق معهم في كل صغيرة وكبيرة .

وينكشف حجم الإيمان الضعيف أكثر وأكثر عند المساس بمصالحه الدنيوية ، فلا غضاضة من الكذب ، وعدم الوفاء بالعهود والوعود إذا كان هذا سيحقق لهم نفعًا أو يصرف عنهم ضرًّا.

فأين تكمن المشكلة ؟ .. أين أثر العبادة ؟

.. الإجابة عن هذه الأسئلة تدعونا لأن نتعرف أكثر على القلب وعلى الإيمان وحقيقته …

محل الإيمان

الإيمان مكانه القلب وليس العقل ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات : 14] .

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [المائدة : 41] .

والقلب هو مركز الإرادة داخل الإنسان ، وهو الملك على الجسد كله وما من فعل أو سلوك إرادي نقوم به إلا ويأخذ الأمر بالتنفيذ من القلب : « ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله .. ألا وهي القلب »([1]) .

ومن أهم خصائص القلب أنه مَجمع المشاعر داخل الإنسان .. مشاعر الحب والشوق ، والرغبة والرهبة ، والطمأنينة ، والاشمئزاز ، والجزع والهلع ، والرعب ، والغيظ ، والرأفة والرحمة ، والوجل والسكينة … .

﴿ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾ [الأنفال : 12] .

﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد : 28] .

﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ﴾ [الزمر : 45] .

الإيمان والمشاعر :

ولأن الإيمان محله القلب ، والقلب هو مجمع المشاعر داخل الإنسان ، فالإيمان – إذن – محله المشاعر :

﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح : 4] .
﴿ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحج : 54] .
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات : 7] .
ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تؤكد هذا المعنى :

« ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يُحب المرء لا يُحبُّه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يُلقى في النار » ([2]) .

وقوله : « أوثق عُرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله » ([3]) .

فالإيمان – إذن – هو الذي يوجه المشاعر ، ومن ثَمَّ السلوك ، مع الأخذ في الاعتبار أن الهوى أيضًا له دور بارز في توجيه المشاعر ، ولكن ما هو الهوى ؟

إن الهوى هو ما تميل إليه النفس . والنفس تهوى الراحة وتكره التكليف ، تُحب الظهور والمدح ، وتكره النقد والذم ، تُحب الاستمتاع بالشهوات ، وتضيق بمنعها ، ترغب في الانتصار لرأيها ، وتنفر ممن يُخالفها .

هذه الأهواء لا يُمكن التعبير عنها على أرض الواقع إلا من خلال القلب ، لأنه هو مركز الإرادة ، لذلك فهي تعمل على السيطرة عليه ، والتمكُّن من المشاعر لتستطيع من خلالها تنفيذ ما تُريده وتهواه .

الصراع بين الإيمان والهوى :

الإيمان محله المشاعر ، والهوى كذلك . والمشاعر هي الدافع الأساسي للسلوك الإرادي ، فلمن تكون الغلبة على المشاعر ؟ ومن الذي يستطيع الاستئثار بها : الإيمان أم الهوى ؟

الإجابة عن هذا السؤال يُحددها قوة أحدهما عند القيام بالأعمال المختلفة ، فعلى سبيل المثال :

عندما يستيقظ المرء وقت آذان الفجر يحدث صراع داخلي بين إيمانه بالله الذي يُملي عليه الامتثال لأوامره بالقيام للصلاة ، وبين هوى نفسه وحبها للراحة والنوم ، فإن كان الإيمان وقتها أقوى من الهوى فمن المتوقع أن يقوم المرء من فراشه ، وينطلق للصلاة ، وإن كان الهوى هو الأقوى كان الإخلاد إلى النوم هو القرار النهائي ، ويؤكد هذا قوله تعالى : ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [القصص : 50] .

( [1] ) جزء من حديث متفق عليه : أخرجه البخاري (1/28 ، رقم 52) ، ومسلم (3/1219 ، رقم 1599).

( [2] ) متفق عليه ، أخرجه البخاري (1 / 14، برقم 16) ، ومسلم (1/67 ، رقم 43) .

( [3] ) حديث صحيح : أخرجه الطبراني (11/215 ، رقم 11537) . والبيهقي في شعب الإيمان (7/70 ، رقم 9513) ، وقال الشيخ الألباني في صحيح الجامع: صحيح ، رقم : (2539).