الكاتب: د. فريد الأنصاري
المجلس الرابع من سورة الفاتحة
في مقام التلقي لرسالة الإخلاص
والابتلاء فيه واقع بالكلمات التالية:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)أما هذه الآية فهي قلب سورة الفاتحة! وكنـز أسرارها! ومنبع أنوراها!
إنها آيةُ الآيات، وأمُّ الْمُحْكَمَاتِ، وبَيِّنَةُ البَيِّنَاتِ، ومجمع الدلالات لكل آيات الوظيفة الإنسانية في كتاب الله: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ!) إنها مفتاح الفهم الحقيقي لطبيعة الوجود البشري كله! وباب الدخول إلى فَلَكِ الوظيفة الإنسانية الكبرى، المنتظم في مدارات الكون الفسيح، والضارب على هدى الخالق العظيم جل علاه. آيةٌ جامعة مانعة! تلخص قصة الخليقة الإنسانية كلها، من أولها إلى آخرها، وجوداً ووظيفةً وغايةً!
إِيَّاكَ نَعْبُدُ: فضمير النصب المقدَّم: “إيَّاكَ” يفيد الاختصاص والتفريد، أي: لك وحدك نخضع ونخشع، ولك وحدك نَذِلُّ ونستكين، ولك وحدك ننقاد ونخنع. أنت الغاية وإليك المصير، فلا شيء منا إلا وهو إليك سائر، مملوكون نحن لك، وأنت المالك الحق، فلا شيء منا إلا وهو لك، قد فنيتْ جميعُ ذراتنا في بساط ركوعنا وسجودنا لك، يا خالقنا العظيم! قد جمعنا قلوبَنا عليك وحدك، وصفينا قصدنا خالصا لك وحدك، وفنينا عن شهود الشهوات والأهواء والأغيار، فلا التفات عن يمين أو شمال! إنَّا أقمنا وجوهنا لك فلا شيء أمامنا سواك! فأنت ربنا لا إله إلا أنت، وأنت خلقتنا ونحن عبادك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا. هذه شهادتنا على أنفسنا، نقر بها خاضعين بين يديك، شهادةً خالصة لك وحدك، ذلك قولنا: ” إِيَّاكَ نَعْبُدُ”!
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: الاستعانة فرع عن العبادة، ولكنْ لأهميتها أُفْرِدَتْ بذاتها، فكانت مسلكا خاصا إلى توحيد الله وإفراده رَغَباً ورَهَباً. فلا استقامة على العبادة – ابتداءً – إلا بالاستعانة بالله، ولا ثبات على العبادة – انتهاءً – إلا بالاستعانة بالله، ولا بلوغ إلى رغائب الدين والدنيا جميعها، من أمور العادات والعبادات، وصلاح المعاش والمعاد، إلا بالاستعانة بالله! ولا انطلاق ولا وصول إلا بالاستعانة بالله، وبالله وحده دون سواه! ذلك إقرار بعهد، والتزام بميثاق، وشهادة على النفس، على غرار الميثاق الأول: ” إِيَّاكَ نَعْبُدُ”!
إن العبد بتلقيه الآيات الأولى من الفاتحة، قد شاهد أن الله هو وحده الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه هو وحده الذي بيده خزائن السماوات الأرض، فلا شيء إلا وهو مُدَبَّرٌ بشؤون ربوبية رب العالمين! ومن هنا لا يملك المؤمن الذي تلقَّى هذا الشهود، إلا أن يهرع إليه تعالى بإخلاص العبادة والاستعانة. وكيف لا؟ وقد رأى ألاَّ شيء يكون إلا بإذنه! وألاَّ شيء ينفع إلا بإذنه! وألاَّ شيء يضر إلا بإذنه! وأي شيء بعد ذلك – يمكن أن يتصوره العقل – يدور خارج فلك رحمانيته؟ وها كل ذرة في الوجود إنما هي قائمة بقيوميته جل علاه؟! والخلق والأمر كله بيده! فأي مسلك بعد ذلك، وأي طريق أنجى للعبد وأضمن من مسلك: ” إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”؟
إنها إذن شهادةُ البراءة التامة من كل قصد غير وجه الله، وشهادة البراءة التامة من كل شريك غير الله، وشهادة البراءة التامة من كل مقصود بالتعبد، توجهاً، وخضوعاً، واستعانةً، وتوكلاً، غيرِ الله! وشهادة الفناء التام عن مراعاة خوارم الإخلاص الصافي، من أدق الشركيات الخفية، رياءً وتسميعاً ومباهاةً؛ إلى أغلظها، من تقديس آلهة الأهواء الباطلة، مما يتجلى في أنصاب المال والأعمال والشهرة، وسائر الشهوات، إلى ما قد يتطور عن ذلك من الأنصاب الحجرية والبشرية، مما قد يُعبد من دون رب العالمين جهاراً!
فَبِنُورِ “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”، يكشف المؤمن ظلمات النفس، فتحترق في وهجها الرباني العظيم كلُّ الوساوس والدسائس الشيطانية، فلا يبقى برغائبها شيءٌ غيرُ وجهِ الله! وتتدفق المواجيد خالصة لله تترى، فيترقى المؤمن بذلك إلى مقام العبدية العالي؛ تكريما من الله وتشريفاً، فَاقْرَأْ يا صَاحِ وَارْتَقِ! لكن بشرط الوفاء بإخلاص العهد لله وحده! فلا عبادة لغيره ولا استعانة بسواه، من أخفى بواطن الشعور إلى أجلى مظاهر الجوارح! وآنئذٍ تُفْتَحُ مَدَارِجُ “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ” بين يديك؛ ويُؤْذَنُ لكَ بالدخول! ثم تكون المناجاة بينك وبين الرحمن جمالا يتدفق بالعطايا والسلام..! فلَكَ يا عبدَ الله آنئذٍ من الله كل ما سألت!
ذلك مقتضى الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله عن رب العزة والجلال. قال عليه الصلاة والسلام:
(قَالَ اللهُ تَعَالَى: “قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ..!
فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”، قَالَ اللهُ تَعَالَى: “حَمِدَنِي عَبْدِي!”
وَإِذَا قَالَ: “الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”، قَالَ اللهُ تَعَالَى: “أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي!”
وَإِذَا قَالَ: “مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ”، قَالَ: “مَجَّدَنِي عَبْدِي!” وَقَالَ مَرَّةً: “فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي!”
فَإِذَا قَالَ: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”، قَالَ: “هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ!”
فَإِذَا قَالَ: “اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ!” قَالَ: “هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ!”)(1)
القضية ههنا إذن:
فَإِذَا قَالَ: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”، قَالَ: “هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي..!”
فأي كلمات هذه وأي ابتلاءات؟ عبادة واستعانة على تمام التصفية والإخلاص الكاملين لله الواحد القهار؟ ألا إنها دعوى عريضة! وإنما يمحصها الحساب! وإنه لا نجاة منها إلا برحمة الله! ولذلك وَرَدَا في الحديث متتابعين جوابا على الدعوى: الحساب والرحمة! فأما الحساب فقوله: “هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي!” وأما الرحمة فقوله: “وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ!”
وما دخل أحدٌ الجنةَ إلا برحمة الله! بَيْدَ أنها بشارة وأي بشارة! بشارة يزفها الرسول الكريم إلى المؤمنين العاملين ألا يقنطوا من رحمة الله، قال صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ! قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ! سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ! وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا!)(2) وفي صيغة أخرى لنص البشارة: (سَدِّدُوا، وقَارِبُوا، وأبْشِرُوا، واستعينوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ، وشَيْءٍ من الدُّلْجَةِ!)(3) التسديد والتقريب، والصلوات الخمس ما بين الغُدُوِّ والرَّوَاحِ، إلى شيءٍ من قيام الليل، بلا غُلُوٍّ ولا تَنَطُّعٍ، وإنما قَصْداً وتوسطاً واعتدالاً! هكذا تتدرج بين منازل “إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ”، حتى تبلغ المنـزل الأعلى! عطاءً من الله ورحمة!
فَأَكْرِمْ بهِ مِنْ عَطَاءٍ رباني رحيم!
- الهدى المنهاجي:
أما ما تتضمنه هذه الآية من رسالات الهدى فهو أعظم من أن يُحَاطَ به عَدّاً وإحصاءً! إنها عمران العمر كله، ووظيفة الوجود البشري كله، ومنهاج الحياة أجمعها! بَيْدَ أنَّا نختصر مقاصدَها ببيان مداخلها الكبرى في الرسالات التالية: - الرسالة الأولى:
في أن غاية الدين عبادةً واستعانةً إنما هي تخليص القصد وتصفيته لله الواحد الأحد؛ حتى يتحقق المؤمن بمقام الإخلاص صفةً جوهريةً، وخُلُقاً تلقائياً؛ بما يجعله عبدا لله حقا وصدقا. (ألاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ!)(الزمر:3). فالحذَرَ الحذَرَ من أن تنحرف بك الوسائلُ عن الغايات! - الرسالة الثانية:
أن “إيَّاكَ” شهادةٌ على النفس بالتوحيد الكامل، والتزام منها بالإخلاص التام، وإقرار عليها بمقامه ومسلكه. فإما حقا وتحقيقا، وإما كذبا وافتراءً! كما ورد في البيان القدسي المذكور: “هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي.. وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ!” ولذلك كانت حقيقتُها أنها مناط ابتلاء عظيم! وجب على المؤمن العاقل أن يجعل له من نفسه خلوة أو خلوات؛ للتفكر في شروط الدخول فيه والفوز بمقامه الكريم! - الرسالة الثالثة:
أنه لا سبيل إلى ذلك إلا باستغراق العمر كله، أيامه ولياليه، في مجاهدة النفس على هذه الحقيقة، سيرا إلى الله عبر منازل “إياك نعبد وإياك نستعين”، خَطْرَةً خَطْرَةً، وخُطوةً خُطوةً، ثم مَقَاماً مَقَاماً. ولهذا القصد جُعِلَتِ الفاتحةُ صلاةً مفروضةً، تُتلَى في كل ركعة من كل صلاة، على مدار الليل والنهار! فصلاتُك ميزانُك! وصلاتُك مقامُك! - الرسالة الرابعة :
أن العطاء والمنع في كل صغيرة وكبيرة إنما هو من الله. فكل عبادة لغيره ظلم عظيم، وكل استعانة بسواه جهل خطير، وإلقاء بالنفس إلى التهلكة! لأنه خروج عن فَلَكِ التعبد، وانحراف عن مَدَارِ التوحيد والإخلاص! ثم ضياع رهيب في تيه الظلمات! فَتَخَلَّصْ من الشركيات والخرافيات تكنْ من الآمنين! - الرسالة الخامسة:
أن كل نقض لصفاء الإخلاص عبادةً واستعانةً، إنما هو نقضٌ لعهد الله، وخيانةٌ له جل علاه! وكيف لا؟ وها أنت ذا تقطعه شهادةً على نفسك صباح مساء؟: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”! ثم تنصرف خلفها إلى سواه؟! فمن يقيك بعد ذلك من عذاب الله؟ - الرسالة السادسة :
إذا كانت سورةُ الفاتحة هي أم القرآن المجيد وخلاصته وروحه! – كما تبين بأدلته من قبل – فإنَّ “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ” – بما تَفَجَّرَ من أنوارها وانكشف من أسرارها – هي خلاصة الخلاصة! وروح الروح! إنها منطلق الدين، وإنها غاية الدين، وإنها مَدَارُ الدين، وإنها المنهاج العملي الجامع لكل الدين، فلا شيء يبقى خارج فَلَكِهَا من الدين! إنها هي “الكَلِمَاتُ” التي ابتلى بها اللهُ هذه الأمة، كما ابتلى إبراهيمَ من قَبْلُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِيَ الظَّالِمِينَ!)(البقرة: 124) ولذلك فالناس إزاءها بين وَفِيٍّ وظَالِمٍ! فمن أوفى بها أوفى بعهد الدين، ومن خانها خان عهد الدين! وكان بذلك من الظالمين!
وأما تمامُها فهو مقام الغِنَى العالي، فمن تحقق بها خُلُقاً غَنِيَ بالله؛ فكانت له أسماؤه الحسنى جمالاً يَتَلَقَّى أنوارَها عطاءً من الله لا ينفد أبداً! منذ أن يضع قدمَه على صراط الله المستقيم – سيرا إليه تعالى عبر مدارج الابتلاء التعبدي – حتى يلقى رحمةَ ربِّهِ وجمالَ رضاه! فما خاب قطُّ عبدٌ أخلص لله، ولا خَسِرَ مؤمنٌ استعان به وحده جلَّ عُلاَهُ!
4- مسلك التخلق:
أول العمل: تحقيق انطلاق الخطو نحو مقام “إِيَّاكَ”، بما ترتب على مستندها من تفريد في العبادة والاستعانة، وتخليص الوجهة إلى غايتها، ثم شهود مقاماتها في كل صلاة، صقلا للقلب، ومجاهدةً للنفس، وحراسةً يَقِظَةً لأبوابها أن تشرد بعيدا عن مناجاة الله، أو تغفل لحظة عن مدافعة وسواسها، والتصدي بقوة لخناسها، كلما اعترض إخلاصَها وعكَّر صفوَها؛ بما يلقي إليها من صور الأغيار، وخواطر الفتن والأكدار، وبما ينفث في القلب من الإغراءات والشهوات، وشتى ضروب الأوهام والشبهات. تلك حقيقة الابتلاء بكلمات”إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”، فما أثقلها من رسالة! وما أعظمها من أمانة! ولكنها يسيرة بتيسير الله على من عزم عزمتَها!
فيا أسفا على عجزك وكسلك يا قلبي العليل! ويا حسرة على تمنيك الواهم، وعلى خطوك المتردد الكليل! فأولئك السابقون هم الآن على أبواب الوصول! وأنت هنا في الخلف ما تزال تفرك عيون النوم تقاعسا، وتتخبط في وحل ريائك وشهواتك! والأوقات تضيع منك هدراً! والروح في أعماق طينك تستغيث!
فاشرب دواء الإخلاص؛ لعلاج القلب من داء الزيغ عن توحيد الله دعاءً واستغاثةً! واسق جراح الروح لشفائها من أمراض التَّسْمِيعِ والرياء، ومن علل العُجْبِ والكبرياء!
وأما تحقيق المناط لذلك الأمر بأجمعه، وكأس الشفاء الجامعة لذلك الدواء كله، فيكون بالدخول في ثلاثة مسالك:
- المسلك الأول: أن تبادر إلى تحقيق المواقيت في الصلوات الخمس خاصة! وتُسْلِسَ القياد لندائها. وأن تتقلب بين منازلها بكل جوارحك ولطائفك، فجراً، ثم ظهرا، ثم عصرا، ثم مغربا فعشاءً! تشهد نظامها ولحظة ميلادها، وتحضر موعد توزيع بركاتها وأرزاقها؛ لتنال نصيبك من أسرارها، تسبيحاً وتوبةً واستغفاراً.
فبانتظام المواقيت تنتظم كل مقامات الدين، وبشهودها يتحقق العبد بمنازل الإيمان، منـزلةً تلو الأخرى، ويتطهر في كل منـزلة من شوائب الأكدار والأغيار، تركاً لكل الفاحشات والمنكرات، ثابت الخطو على سكتي الأمر والنهي، وهو سائر إلى مولاه عبر مدارجِ “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”. يحقق نظر القلب إلى مقصدها عند تلاوتها في كل ركعة، ويدعو ربَّه مستعيناً به وحده، عند كل سجود، فلا يخرج من صلاته تلك إلا وهو عبد مستعين، حتى تدركه الصلاة التي تليها. فإذا شهد صفَّها وميقاتها كانت له زادا جديدا كسابقتها، فيخرج منها كما خرج من الأولى. وهكذا يعيش يومَه وليله عبداً خالصا لله وحده، ومؤمنا مستعينا بالله وحده.
- المسلك الثاني: تحقيق خمس براءات من خمسة مهالك! أولها: الخروج الفوري من ظلمات الشركيات الظاهرة والباطنة، من التذلل التعبدي لغير الله، أو التوجه بالدعاء لغير الله، أو الاستغاثة بغير الله، أو تقديم الذبائح والقرابين لغير الله. الثانية: الانقطاع الفوري عن أكل المال الحرام، وأخطره الربا، ثم كل مالٍ ترتب عن أي فعل، أو أي تصرف، أو أي عقد حرام. والثالثة: الفرار من الزنا بشتى مظاهره، من فحش القول وفحش اللباس والنظر الحرام. والرابعة: هجران الخمر والمخدرات بشتى أشكالها، والانقطاع الحاسم عن خبيثة التدخين. وأما الخامسة: فهي مجاهدة نفسك أبداً لحفظ اللسان من كل قول آثم، كذبا كان أو غيبة ونميمة.
فاحذر أشد الحذر من الاقتراب بَلْهَ الوقوع في هذه المهالك الخمسة، فواحدة منها كفيلة بإحراق كل رصيدك الإيماني والعياذ بالله!
- المسلك الثالث: أن ترتب على نفسك برنامجا من الأدعية والأذكار، قوامه ما ورد في السنة الصحيحة من أذكار اليوم والليلة، كدعاء النوم والاستيقاظ، وأدعية الخروج والسفر والركوب، ونحوها، وكذا صلاة الاستخارة قبل الإقدام على عزائم الأعمال، ثم الالتزام بورد يومي – مهما قَلَّ – من سنن التسبيح والاستغفار والصلاة على النبي المختار، عليه الصلاة والسلام.(4) وفي ذلك حِكَمٌ تربوية بالغة، يأتي تأصيلها – مع دعاء الهدى – في المجلس الأخير بحول الله.
والنتيجة: أن العبد المتخلق بمقتضيات هذه المسالك الثلاثة يكون عبدا محروسا بالله، عليه أمان الله وسلامه! ولذلك فهو يهيمن بمقاماته الإيمانية المتجددة على كل تصرفاته وأحواله، سواء منها ما هو من أمور دينه أو دنياه، تاجرا كان أو موظفا، ومهنيا عاما كان أو اختصاصيا، ورئيسا كان في عمله أو مرؤوسا، لا يفارقه في شيء من ذلك كله مقامُ: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”؛ بما تحقق له من شهود بركة مواقيتها، والتخلق بجمال منازلها، والوفاء بالتزامات عهدها وميثاقها؛ فيكون بذلك – إن شاء الله – من السابقين!
فيا نفسي المغرورة! تلك هي “كلمات الابتلاء” الملقاة عليك، وتلك هي رسالتها العظيمة، فماذا حملتِ منها وماذا بقي؟ فواحسرتاه عليكِ! هذا البيان النبوي يجزم أن (القرآن حجة لك أو عليك!)(5) فكيف بما تقرئينه منه صباح مساء؟ ميثاقا تلتزمين به بين يدي رب العالمين: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”!؟