مع المتدبرين

سلسلة سورة الفاتحة 5

الكاتب: د. فريد الأنصاري

المجلس الخامس والأخير لسورة الفاتحة
في مقام التلقي لرسالة الهدى

والابتلاء فيه واقع بالكلمات التالية:

1- كلمات الابتلاء:
“اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ”.

2- البيان العام:
هذه خاتمة المناجاة بينك وبين ربك، الرحمن الرحيم، وبتمامها يغمرك سبحانه بفضله ورحمته، فيقول لك: (هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ!) لقد وصلتَ الآن إلى الغاية، فتمتع بنور الهداية! هنيئا هنيئا! فإنما الهدى جائزة المكابِدين لمنازلِ: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”! أما وقد وصلتَ؛ فَلَكَ الآن يا صاح أن تسأل ما تريد..! فماذا تسأل؟ وهل في نِعَمِ الله بهذه الدنيا شيءٌ أعظم من نعمة الهدى؟ ذلك النور العظيم الذي ليس بعده إلا جحيم الظلمات وشقاء الضلال! فافتح قلبك للتلقي يا صاح! ولندخل جميعا تحت أنوار هذا البيان!

” اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ”، تعني: أرشدنا يا ربنا إلى معرفة الطريق المستقيم الموصل إليك تحقيقا، ووفقنا للاستقامة على منهاجه تثبيتا. فإنما الهداية الكاملة إرشادٌ للعقل وتثبيتٌ للقلب! وتلك هي حقيقة الْهُدَى. فالصراط المستقيم: هو الطريق الواضح البَيِّنُ الذي لا اعوجاج فيه. وقد يكون المرء على طريق الإسلام على الإجمال، لكن لا يكون على هدى “الصراط المستقيم”؛ بما قد يعتريه من النقص والانحراف في الاعتقاد أو في السلوك، أو فيهما معا؛ مما ينتج عنه اضطراب في المنهاج واختلال، يزيد وينقص على حسب حجم ذلك الاضطراب ونوع ذلك الاختلال.

فالْهُدَى هنا إذن أخص من عموم الهداية الحاصلة بالإسلام، وإن كانت هذه مقدمة لذاك، ومنطلقا له. إلا أن هدى “الصراط المستقيم” هو الغاية من كل سلوك، وهو المقصود من كل عبادة، إنه كمال الإيمان وصفاء الإخلاص. فهو معرفة يقينية بمسلك الوصول إلى الله، بعيدا عن فتن القيل والقال، من المشارب المختلطة بالابتداع العقدي والانحراف السلوكي، مما قد يعتري المنهاج العام للمسلم على الإجمال. فالصراط المستقيم: إنما هو طريق أهل اليقين وكمال الإيمان، ودونه ما دونه من مفاوز المجاهدة والمكابدة! فمن تحقق به فقد نال تاج النعم، وكمال الهدى! فأكرم به وأنعم! ولذلك وجب السعي إليه في كل صلاة، دعاءً أبديا يستغرق العمر كله!

وإلى نحو ذلك ذهب غير واحد من المفسرين. ورجَّحه ابن عطية الأندلسي بعدما ذكر اختلافهم في معنى “الصراط” بين معنى القرآن، وبين معنى الإسلام، وبين معنى سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصاحبيه أبي بكر وعمر، قال رحمه الله: (ويجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة إنما هي في أن يكون الداعي على سَنَنِ المنعَمِ عليهم، من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام، وهو حال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصاحبيه (…) وأقول: إن كل داع به فإنما يريد: “الصراط” بكماله، في أقواله وأفعاله ومعتقداته، فيحسن على هذا أن يدعو في الصراط على الكمال مَنْ عنده بعضُه.) يعني: أن الجدير بهذا الدعاء الذي يراد به طلبُ الكمال، إنما هو مَنْ عنده بعض معناه، وهو عموم الإسلام مهما شابه من نقص، أي: ولو لم يكن في التزامه إياه على تمام الكمال؛ ولذلك ناسب أن يسعى إلى غايته ومنتهاه بهذا الدعاء. فيكون طلب الهداية إلى الصراط المستقيم طلبا لكمال الهدى وتمام الاستقامة!

وخصوص هذا المعنى من مفهوم “الصراط المستقيم” واضح من بيانه الوارد بعدُ مباشرة في السورة، على سبيل التعريف: “صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ”، وهؤلاء وقع الكشف عنهم في سورة النساء، بسياق دال على كل كمال التثبيت على الحق، مع صنف خاص من المؤمنين وهم: الكُمَّلُ من أهل السبق واليقين، من طبقة الأنبياء ورفيقهم! وذلك قوله تعالى في حق بني إسرائيل: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً. وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيئِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً!)(النساء: 66- 69).

وتقييد الدعاء بهذا الوصف المبعد لفئة المغضوب عليهم، ولفئة الضالين، “غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ” – رغم بُعْدِ المسافة الفاصلة بينهم وبين المنعم عليهم – دال على أن المسلم غير المتحقق بصراط أهل اليقين، وغير المتأسي بهديهم، لا يأمن على نفسه أن تزيغ به الشهوات والأهواء؛ فيتردَّى في جحيم العذاب؛ بما يقع عليه من غضب الله، أو يضيع في متاهات الضلال؛ بما يعبد من هواه! تماما كما وقع لليهود من قبل، وكما وقع للنصارى بعدهم!

فقوله تعالى: “غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ” أي غير طريق المغضوب عليهم وهم “اليهود” الذين وصفهم الله بقوله: ” فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ”.

وقوله سبحانه: “وَلاَ الضَّالِّينَ.” أي وغير طريق الضالين، وهم “النصارى”، الذين وصفهم الله بقوله: ” قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ”.

وموجبات الغضب والضلال كلها أمراض معدية، لا أحد بمنأى عنها، ولو كان من المسلمين! اللهم إلا من عصمه الله بالتثبيت على هدى “الصراط المستقيم”، ووفقه إلى التزام منهاجه القويم. فلا غرو إذن أن يكون ذلك دعاءَنا عند مناجاة الرحمن، في كل ركعة من كل صلاة، سائرين إليه عبر مواقيتها، متقلبين في أحوال العبودية بين يديه تعالى، متقربين ومتزلفين، ما بين منازل الليل والنهار، ونحن نتوجه إليه بطلب نعمة الهدى، ونجأر إليه بأصدق ما يكون الْجُآرُ والاستغاثة؛ رجاءَ بشارة الاستجابة، بما تفيض به من نور، وتتنـزل به من أمان وسلام: آمين!

3- الهدى المنهاجي:
دعاء الهدى من هذه الآيات هو الغاية التي تنتهي إليها سورة الفاتحة. فإذا كانت آيةُ “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ” هي خلاصتها وروحها، فإن دعاء: “اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ!” هو ثمرة تلك الخلاصة، وبشارتها المتنـزلة على العبد، هديةً تملأ قلبَه بالأمن والسلام؛ تحيةً من الله السلام! وإذناً منه – جل علاه – بدخول جنات القرآن! فكانت هذه الآيات هي مصب روافد سورة الفاتحة، ومجمع بحورها، وخزانة أسرارها. والفاتحة متضمنة لكل رسالات القرآن! فأنى لنا استيعابها في كلمات؟ كيف وها الله – جل جلالُه – قد أثقلها بما أثقلها به من كنوز، وجعل فيها ما جعل من عمران، يختصر قصة الوجود ومسيرة الإنسان! ثم طواها لنا طَيّاً، تيسيرا لتلاوتها في لحظات برحمته، وثناها لنا ثنياً معجزا؛ حتى كانت الفاتحة هي “السبع المثاني والقرآن العظيم”! فانطوت بذلك على كل حقائق الإيمان، واختصرت كل قصة السير إلى الرحمن! فمن ذا قدير على تلقي رسالات الهدى من خاتمتها في لحظات؟!

وإنما لنا أن نبقى مع رحمة الثَّنْيِ؛ بما تحيل عليه من رسالات القرآن العظيم، وترشد إليه من مسالك وممالك، وفيما تعرضه من عمران، وتَبْنِيهِ من مدارج ومعارج، ترتقي بالعبد إلى منازل الجوار العظيم، سيرا على صراط المنعم عليهم، من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
فجعلنا هذه الآيات – لذلك – متضمنةً على الإجمال الكلي لخمس رسالات، هي:

  • الرسالة الأولى:
    بما أن دعاء الهدى من هذه السورة، وُضِعَ لِيُتْلَى معها في كل صلاة؛ تجديدا للإيمان، وإلحاحا على الله تعالى بالحاجة والافتقار؛ فقد حق على العبد الالتزام بأوراد الأدعية والأذكار على كل حال – كما أشرنا إليه في المجلس السابق – وتكرارها بالليل والنهار! والحكمةُ المرجوة منها بهذا المجلس هي أن تكون روافدَ روحيةً لدعاء الهدى في الفاتحة، ورافعةً للعبد إلى مقام شهوده، بما له من تميز وخصوص. وبيان ذلك هو كما يلي:

قد تواتر أولا أن الصلاة هي عماد الدين، وأنها خير العبادات، ثم تواتر أن الفاتحة هي أهم أركانها، وأنها أم القرآن وخلاصته، ثم تحقق أن الدعاء هو ثمرتها ونتيجتها، كما أن الدعاء هو مخ كل عبادة، وقد صح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة!).

فآل أمر الدين في نهاية المطاف إلى حكمة الدعاء، بما هو سير إلى الله بالافتقار الصادق، الذي يربي القلب على صفاء الإخلاص. فلزم من ذلك كله وجوب سير العبد إلى الله بالدعاء على الإجمال، يحققه في كل عبادة، ويتخذ لنفسه منه أورادا – مهما قَلَّتْ – على حسب مواقيت الليل والنهار، وعلى حسب أذكار اليوم والليلة.

ذلك صريح منطوق القرآن في قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ!)(غافر:40-60) وعلى هذا يفهم قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لاَ يَدْعُ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ!) أي: بما هو قد استغنى عن الله! فكأنما الحديث تفسير للآية. ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : (سَلُوا اللهَ كلَّ شيء! حتى الشِّسْعَ! فإن الله – عز وجل – إن لم يُيَسِّرْهُ لم يَتَيَسَّرْ!) وهو تعبير بليغ عن حقيقة التوحيد وإخلاص الدين لله؛ عقيدةً وعملاً. وذلك هو جماع مقاصد القرآن، وخلاصة غاية الدين، (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ. أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)(الزمر: 2-3). فالدعاء هو التعبير الجامع عن حقيقة الإخلاص، بما هو توجه إلى الله بالافتقار الصادق، رغباً ورهباً، توحيداً وتفريداً. وما من عبادة إلا وهي تؤول إلى هذا المعنى العظيم، الذي هو مخ الدين!

وعليه؛ فكما أن سائر العبادات خادمة للصلاة، باعتبار أن الصلاة هي “عمود الدين”، وأنها خير أعمال المؤمن، كما تواترت بمعناه الأحاديث؛ فإن سائر الأدعية خادمة لدعاء الهدى، باعتبار أن هذا أعلى مقام يناله العبد من ربه! فيحتاج لشهود مقامه إلى سير إليه عبر أدعية شتى بالليل والنهار! فانظر كم هو تعيس من يغفل عن أوراد الدعاء!

  • الرسالة الثانية:
    في أنَّ هُدَى الصراط المستقيم هو أعظم نعمة نازلة من رب العالمين على الإطلاق! وأعظم رحمة تجلت عن اسميه الكريمين: الرحمن الرحيم؛ فكان ذلك هو خير ما يطلبه المؤمن من مولاه؛ لأن به أو بعدمه يتحدد مصيره الأخروي في مملكة الحق، عند ملك يوم الدين. فيا لتعس من خسر ذلك المصير! ويا لسعد من فاز بنجاته وسلامه، وصار إلى مقام جماله!

فيا نفسي الجهولة! إلى متى وأنت منشغلة بسفاسف الأهواء والشهوات؟ وإلى متى وأنت مُعْرِضَةٌ عن برامج الأوقات والصلوات؟ ولاهية عن مجاهدة الخطايا والزلات؟ ثم إلى متى وأنت متراخية عن التشمير عن ساعد الجد في طلب الهدى، وحث الخطى للحاق بقافلة الْمُنْعَمِ عليهم، من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين؟ فبأي رفيقٍ انشغلتِ عن صحبتهم؟ وبأي فتنةٍ عَمِيتِ عن مشاهدتهم؟ وبأي شيطان انقطعتِ عن متابعهم؟ ثم بأي دعوة فاجرة انصرفتِ عن صراطهم المستقيم؟ إنكِ يا نفسُ إن لم تدخلي في العمل الواقف الآن بحقه عليكِ، فعلى دينك السلام! وإنكِ يا نفسُ إن لم تبادري إلى التوبة من التنقل بين السُّبُلِ هلكتِ! فراية القرآن واحدة، ورسالة الهدى لها زمن معلوم هو معيارها، إن فَاتَكِ إبَّانُه فَاتَكِ كلُّ شيء! فالبِدَارَ البِدَارَ قبل فوات الأوان!

  • الرسالة الثالثة:
    في أن الحياة سير قهري إلى الله، وإنما الاختيار واقع بين طريق مستقيم موصل إلى رحمة الله، وبين طريق معوج موصل إلى عذاب الله. إننا كادحون إلى الله كدحا فملاقوه! لا خيار للبشرية في ذلك أبدا! وإنما وصية الله جاءت ببيان الصراط المستقيم هُدًى للعالمين؛ حتى يكون الكدح سيرا إلى رضى الله لا إلى عذابه! (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأنعام: 153).

فيا صاح! إنك راحل إلى الله حتما، وما عمرك هذا المتناثر من بين يديك صباح مساء إلا دلالة صريحة على السير الحثيث، فبعد قليل ستنتهي الرحلة، ونقف على محطة القبر – أنا وأنت! – لنلج عالمَ البرزخ، في انتظار اجتماع أجيال الخلائق لليوم الموعود!

  • الرسالة الرابعة:
    في أن الهدى – بوصفه توفيقا وتـثبيتا، وبوصفه نعمة ورحمة – لا يكون إلا من الله وبه! هو وحده تعالى مصدر الهدى، وهو وحده مصدر التوفيق إليه، والإرشاد إلى صراطه المستقيم، والتثبيت على التزامه، والتحقق من صفاته وشروطه؛ لذلك فلا إمكان للوصول إلا بما دل عليه هو تعالى من آيات وعلامات. فمن رجا أن يهتدي بغير هدي الله فقد ضل ضلالا بعيدا! فلا يغرنك قول فلان أو علان ممن نصب نفسه دالا على الله بغير منهاج الله! وإنما منهاج الله هو هذا القرآن العظيم. وبذلك جاء الجواب للداعي – بعد ختام دعاء الهدى في الفاتحة مباشرة – بياناً له، في أول سورة البقرة: (اَلَمِّ. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ!)(البقرة:1). ثم ورد البيان النبوي بعد ذلك بعرض منهج الاشتغال بالقرآن وتصريف آياته في الحياة.

فيا قلبي العليل! هذا دواؤك الشافي! فلا تلتفت عنه إلى ما تزينه لك الأهواء، وما يلقيه الشيطان في خواطرك المضطربة، من العدول عن الحق الواضح المبين – في الدعوة والتربية والسلوك – إلى بدع أصحاب الأهواء! فإنما تلك فتنة عمياء وضلالة صماء! ورب شيخ نصب نفسه دالا على الله، وما هو في الحقيقة إلا حِجَابٌ ثقيلٌ من الْحُجُبِ الصَّادَّةِ للخلق عن الله!

فالقرآنَ القرآنَ!.. القرآن زاد الدعوة والدعاة، والقرآن منهاج العبادة والحياة، والقرآن صراط الهدى المستقيم الموصل إلى الله، فماذا تلقيتَ يا صاح بقلبك من هداه؟ وماذا قَدَحْتَ من نوره بين يديك؛ لضبط السير ومعرفة الاتجاه؟ فيا طالب الشفاء للنفس، ويا طالب الغذاء للروح، ويا طالب الصلاح للبلاد والعباد! ذلك هو الحق الذي لا حق سواه! (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ؟ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟!)(يونس:32).

  • الرسالة الخامسة:
    في أن من علامات الهدى، ومن شروط السير على صراطه المستقيم، الاقتداءَ الجميل والتأسي الحسن بمجاهدات الْمُنْعَمِ عليهم، والسير على سَنَنِهِمْ، من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. والتشمير عن عزائم الصبر؛ للالتزام بمسلكهم، والدخول في صحبتهم، ونقل الخطى إلى مجالسهم؛ للغَرْفِ من علمهم، والتخلق بسمتهم، وتلقي حكمتهم، والانضمام إلى قوافلهم السائرة إلى الله. فقوافلهم لا تنقطع أبداً، ومدرستهم مفتوحة سَرْمَداً، فسجل قلبك بفصولها، وادْخُلْ مجالس القرآن!

4- مسلك التخلق:
وأما الدخول في مسالك هذه الآيات، على سبيل الابتلاء بكلماتها، والتخلق بِحِكَمِهَا، بما هي باب الدخول إلى عالم القرآن، وفاتحة النور الهادي إلى الرحمن، فهو قائم على قطع خمس خطوات منهجية، وهي الكالتالي:

  • الخطوة الأولى : تحقيق شهود الافتقار إلى الله عند تلاوة دعاء “اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ!” ومجاهدة النفس أن تشرد في متاهات الغفلة، عند تلقي أنوار التلاوة للكلمات.
  • الخطوة الثانية: مطالعة معالم الهدى ومشاهدة جماله، في نماذج الْمُنْعَمِ عليهم من السابقين، وعلى رأسهم أسوة الخلق أجمعين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم مَنْ كان معه من الصحابة الميامين، وخاصة منهم خلفاءه الراشدين. فوجب أن نتلقى منه – عليه الصلاة والسلام – هَدْيَهُ في كل شيء، وأن نتعرف على معالم سيرته، ومنهاج سنته، في تعامله مع ربه بالليل والنهار، وتعامله مع أهله، وأصحابه، وأعدائه، في كل أحواله. ثم وجب أن نتدارس سنة خلفائه المهديين الراشدين من بعده، ساداتنا: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضوان الله عليهم أجمعين، ففي سنتهم من معالم الهدى ما وجب أن نعض عليه بالنواجد!
  • الخطوة الثالثة: الحرص على شهود صلاة الجماعة بمساجدها؛ لأنها من أهم معالم الهدى، ومقياس دقيق لمعرفة موقعك من هدى الصراط المستقيم. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه – قَالَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ! فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى! وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ! وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ؛ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً. وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ! وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ!).
  • الخطوة الرابعة: مجاهدة النفس بالقرآن؛ حتى لا تَفْتَتِنَ عن منهاج الفطرة، ونور الصراط المستقيم، بالالتفات إلى بهارج الهياكل والألقاب، وملاهي الطوائف والأحزاب. ويتم ذلك بالدخول إلى مجالس التلقي للقرآن الكريم، والالتزام بمواعيدها، فهي خير من الدنيا وما فيها! ففي رياضها تتنـزل الرحمة والسكينة، وبفضائها تحتف الملائكة، أنوارا تصل أرواح الجلساء بالسماء، لتلقي الهدى من الله، ونيل شرف الذكر في الملأ الأعلى! فأكرم به مجلسا وأنعم! ذلك بيان الرسول لمنهاج تلقي القرآن، في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عملُه لم يسرع به نسبُه!).
    فيا جليسَ الملائكةِ أَبْشِرْ بالهدى والصلاح!
  • الخطوة الخامسة: تخصيص وقت خالص – من حين لآخر – للخلوة إلى النفس، لتنظر فيما بينك وبين ربك؛ حتى يصفو لك النظر إلى سيرك؛ فترى موقعك من صراط الله المسقيم، قُرْباً أو بُعْداً، واستقامةً أو حَيْداً، فتحاور نفسك وتناقشها، مساءلةً عما فات، وبحثا فيما أضمرت من مقاصدها لما هو آت، على سبيل التقويم والمحاسبة.

ومقاييسك النقدية التي تحاسب بها نفسك، وتقوم اعوجاجها، عبارةٌ عن مرآة ثلاثية الأبعاد، تكشف لك الصورة الحقيقية لنفسك الأمارة، وتظهر لك كل ما بها من غش وثلمات، أو ما بها من ضعف وهَنَات. فالمقياس الأول: هو مرآة الصلوات والأوقات. والمقياس الثاني: هو برنامج القرآن. والمقياس الثالث: هو مدى انقطاعك عن كبائر المحرمات. وتلك أمور سبق بيان مسالكها العملية ومواردها التطبيقية.

حتى إذا رأيت ما رأيت من نفسك وأحوالها، وشاهدت ما شاهدت من أمراضها وأدرانها، رسمت خطتك للانتقال من حال إلى حال، ووضعت طريقتك للتدرج من مقام إلى مقام. ثم تعزم – بعد ذلك – عزمتك، وتتوكل على الله، مستعيذا به تعالى من كل شيطان رجيم، ثم تهرع بالمبادرة إلى صلاتك! – فهي أول مداخل التصحيح والتقويم – تَجْأَرُ فيها إلى خالقك، وتدعوه رَغَباً ورَهَباً: “اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ!” آمين!

خاتمة
تلك بعض معالم الهدى المتلقَّى من سورة الفاتحة، وتلك بعض رسالاتها. وإنما تتحقق حكمتُها لمن كَابَدَهَا، إذ لا حظ من الحكمة ولا من التخلق، لقارئٍ بغير مكابدة ومعاناة! فهذه مسالك العمل واضحة بين يديك، وهذه حجة الله قائمةٌ أبداً عليَّ وعليك! وهذا العمر يتصرم منا اللحظةَ تِلْوَ الأخرى! فالبِدَارَ البِدَارَ قبل وقوع الْخَسار..!
ذلك، وإنما الموفَّق من وفقه الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

انتهت بحمد الله.