أفتى سلطان العلماء “العز ابن عبد السلام” ببيع المماليك ورد ثمنهم إلى بيت المال، وذلك في عهد الملك الصالح أيوب، وكان من بينهم نائب السلطان فكَبُر ذلك عليه، فتوجه ومعه جماعة من المماليك إلى بيت الشيخ شاهراً سيفه فطرق الباب طرقا عنيفا فلما خرج له ابن الشيخ ألجمته المفاجأة إذ رأى شدة الغضب في وجه نائب السلطان والسيف مشهرا بيده، فدخل إلى والده وأخبره بما رأى وأنهم جاءوا ليقتلوه فلم يكترث الشيخ بما سمع وقال لابنه: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله!
إجابة عجيبة في موقف لا يحتمل التكلف. إجابة تقطر تواضعا واستصغارا للنفس ومحوا للذات.
وعندما خرج إليهم ألقى الله مهابته في قلب نائب السلطان فيبست يده على السيف وسقط من يده وارتعدت فرائصه ووافق على تنفيذ فتوى الشيخ..!
إن رؤية المرء لنفسه بعين النقص واستصغاره لها واستشعاره أنه لا قيمة له ولا اعتبار بذاته وأن أي خير هو فيه فهو محض فضل من الله وأنه سبحانه إن شاء أثبته وإن شاء منعه .. هذه الحقيقة لَمِن أهم الحقائق التي ينبغي أن يعيش العبد بكينونته فيها وأن تصطبغ حياته بها في كل الأوقات والأحوال سواءٌ كان من أصحاب المناصب الدنيوية أو الدينية أو لم يكن.
ولنا في رسل الله وأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه الأسوةُ الحسنة في ذلك؛ فمع أن هؤلاء الأخيار هم أفضل الخلق إلا أنهم كانوا أكثر الخلق تواضعا ويكفيك في هذا ما حدث من رسول الله موسى عليه السلام عندما كلفه الله عز وجل بحمل الرسالة والذهاب إلى الطاغية فرعون وقومه لإبلاغهم بها والتي تؤكد على أن الله وحده هو المستحق للعبادة وأنه رب كل شيء ومليكه ” وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُون ” [طه: 10، 11] فماذا كان جواب موسى عليه السلام؟ كان جوابه في غاية التواضع واستصغار النفس “قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون ” {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } [القصص: 34] فهو يرى أن أخاه هارون أفضل وأقدر على توصيل الدعوة منه مع أن المتأمل في القرآن لمسيرته الدعوية مع أخيه عليهما السلام يجد أن العبء الأكبر في هذه الدعوة قد تحمله موسى عليه السلام وأن هارون عليه السلام لم يأت ذكره في القرآن إلا في مواضع قليلة.
وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهو من هو في منزلته عند الله عز وجل وأفضليته على جميع البشر بمن فيهم الرسل والأنبياء، يأتيه رجل فيقول له يا خير البرية. فيرد عليه صلى الله عليه وسلم قائلا: ذاك إبراهيم عليه السلام. [رواه مسلم] وقال يوما لأصحابه: لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله! [متفق عليه]
وجيء إليه صلى الله عليه وسلم يوما بطعام فقالت له عائشة رضي الله عنها: لو أكلت يانبي الله وأنت متكئ كان أهون عليك. فأصغى بجبهته حتى كاد يمس الأرض وقال: بل آكل كما يأكل العبد وأنا جالس كما يجلس العبد وإنما أنا عبد. [أخرجه ابن المبارك في الزهد].
ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له: هون عليك فإني لست بملك إنما أن ابن امرأة من قريش تأكل القديد. [رواه ابن ماجه]
ومن صور تواضعه صلى الله عليه وسلم واستصغاره لنفسه أنه كان يكبر أفعال إخوانه من الرسل وأنه لو كان مكانهم ما فعل مثل أفعالهم كقوله صلى الله عليه وسلم: عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه والله يغفر له حيث أرسل إليه ليستفتى في الرؤيا ولو كنت أنا لم أفعل حتى أخرج وعجبت لصبره وكرمه والله يغفر له أتي ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره ولو كنت أنا لبادرت الباب. [السلسلة الصحيح 1941].