الكاتب: ابن القيم
ومن نِعم الله علينا في القرآن إلى جانب أنه الناصح الأمين و المُبصِّر القويم، أنه الشافي – بإذنه سبحانه – لأدوائنا و أسقامنا الحسية و المعنوية، العقلية و القلبية، و هو إذ يشفينا من هذه الأمراض و غيرها فهو بذلك يأخذنا إلى ربنا و يهدينا إليه و يعرفنا به سبحانه، يقول ابن القيم: فالقرآن بصيرة و تبصرة، و هدى و شفاء و رحمة، فهو هدى للعالمين، و موعظة و هدى للمتقين، فهو في نفسه هدى و رحمة، و شفاء و موعظة.
فمن اهتدى به و اتعظ و اشتفى، كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصُل به الشفاء، فهو دواء له بالفعل.
و القرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، و بالقوة لمن لم يهتد به، فإنما يهتدي به و يرحم و يتعظ المتقون الموقنون[1].
ويقول في موضع آخر:
ليس لشفاء القلوب دواء قط أنفع من القرآن، فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يُغادر فيها سقما إلا أبرأه، و يحفظ عليها صحتها المطلقة، و يحميها الحمية التامة من كل مؤذ و مضر، و مع هذا فإعراض أكثر القلوب عنه، و عدم اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنه كذلك، و عدم استعماله، و العدول عنه إلى الأدوية التي ركبها بنو جنسها حال بينها و بين الشفاء به، و غلبت العوائد، و اشتد الإعراض، و تمكنت العلل و الأدواء المزمنة من القلوب [2].
ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص و منافع مجربة، فما الظن بكلام رب العالمين، الذي فَضْله على كل كلام كفضل الله على خلقه، الذي هو الشفاء التام، و العصمة النافعة، و النور الهادي، و الرحمة العامة، الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته و جلالته. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [3] [الإسراء: 82].
القرآن وأمراض القلوب:
إذا كان القلب هو الملك على جميع الأعضاء، و هو المسئول الأول عن التزام المرء عتبة العبودية أو الاستكبار عنها، فإن تَوَطُّن المرض، و استفحال الداء يكون فيه، و القرآن مَعنِيٌ بعلاج هذه الأمراض دقيقها و جليلها، كبيرها وصغيرها، يقول ابن القيم عن هذه الأمراض و دور القرآن معها: جماع أمراض القلب هي أمراض الشبهات والشهوات، و القرآن شفاء للنوعين، ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يُبيِّن الحق من الباطل، فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم و التصور و الإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه.
وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية: من التوحيد، و إثبات الصفات، و إثبات المعاد، و النبوات، و رد النحل الباطلة، و الآراء الفاسدة مثل القرآن؛ فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتم الوجوه و أحسنها، وأقربها إلى العقول، و أفصحها بيانًا؛ فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك.
لكن يبقى السؤال: متى يسري مفعول هذا الدواء في القلوب؟ يستطرد ابن القيم فيقول: و لكن ذلك موقوف على فهمه، و معرفة المراد منه، فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عَيانًا بقلبه كما يرى الليل والنهار.
وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، و الأمثال و القصص التي فيها أنواع العبر و الاستبصار، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه و معاده، و يَرْغب عما يضره، فيصير القلب مُحبًّا للرشد مبغضًا للغي؛ فالقرآن مزيل للإمراض الموجهة للإرادات الفاسدة فيصلح القلب فتصلح إرادته و يعود إلى فطرته التي فطر عليها فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية كما يعود البدن بصحته و صلاحه إلى الحال الطبيعي فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق، كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن، فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه ويؤيده و يفرحه و يسره و ينشطه ويثبت ملكه كما يتغذى البدن بما ينميه و يقويه، و كل من القلب و البدن محتاج إلى أن يتربى فينمو و يزيد حتى يكمل و يصلح، فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له و الحمية عما يضره فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه و منع ما يضره فكذلك القلب لا يزكو و لا ينمو و لا يتم صلاحه إلا بذلك، و لا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن و إن وصل إلى شيء منه من غيره فهو نزر يسير لا يحصل له به تمام المقصود[4].
[1] إغاثة اللهفان (2/196-171). [2] زاد المعاد (4/101). [3] المصدر السابق ص (177). [4] إغاثة اللهفان (1/44-46).