الإيمان والحياة

لمَّا انكسر.. صار عمر

بسم الله الرحمن الرحيم

لازالت شخصية سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تدهش من تأمل فيها ونظر إلى جوانبها، حتى نُقل عن بعض الغربيين مقولتهم الشهيرة: أن عمر هذا الذي تحدثوننا عنه ما هو إلا أسطورة.

ومما يثير الدهشة حقًا هو: كيف جمع سيدنا عمر رضي الله عنه بين ما قيل فيه من ثناءات وبشارات من رب العالمين ومن النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه، وبين ما كان يعيشه من حقيقة نفسه وحاله معها؟

فهو الذي لُقِّب بالفاروق في أول ساعة من إسلامه، ولعل حقيقة هذا اللقب ترجع إلى أنه – رضي الله عنه وأرضاه – يكون كأمة وحده، ويقلب الموازين التي رضيها الناس لأنفسهم ولم يرضها الله لهم، وتُهدم به عروش، ويُذَل به جبابرة، سيرًا في ذلك كله على خطْو حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم…

كل هذه المعاني وأكثر منها هي حقيقة ما لُقِّب به عمر في أول لحظات دخوله الإسلام…

ثم تأتي بشارات النبي صلى الله عليه وسلم له واحدة تلو الأخرى، والتي تكفي الواحدة منها لعمر أن تجعله يستريح، ويرضى عن نفسه وعما حققه من أجل الله والدين، والذي يجعله يكاد يتأكد من حسن خاتمته في الدنيا فلا يحمل همهما، ومن الأمن والأمان والقرب من الله والنعيم في الآخرة ، فهو المبشر سلفًا بأنه الفاروق، وأنه الشهيد، وأنه لو كان من بعد النبي صلى الله عليه وسلم أنبياء لكان عمر، وأنه المُلهم – هذا ما يلحقه من البشارات في الدنيا – وهو أيضا المبشر بأنه في الآخرة يحشر يدًا بيد مع النبي والصدِّيق، وأنه أول من يأخذ كتابه بيمينه، وأنه وأنه…. .

لكن الذي يدهش العقول، أن هذا الرجل – مع كل ذلك – يعيش حقيقة أنه لا شيء، ويتمنى أن لم تكن أمه قد ولدته، وتُرعبه رعبًا آيات العذاب وأخبار الآخرة حتى يبكي، بل ويمرض لسماع أنباء وقوع العذاب ويهتم ويغتم لذلك طويلًأ.. ثم ها هو عند موته يطلب من ابنه أن يضع خده على التراب، فيقول له ابنه: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟ فيقول: ضع خدي بالأرض لا أُمَّ لك، ثم جعل يقول: ويلي، وويل أمي إن لم يغفر الله لي، حتى فاضت روحه، بل وصل الأمر إلى أنه قد تمنى أن يفتدي بالأرض وما فيها من عذاب الله قبل أن يمتثل بين يديه فيقول: والله لو أن لي طِلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه[1].

والسؤال الذي يطرح نفسه، كيف جمع عمر بين هذين الأمرين؟ ألم يكن حريًّا به عند موته أن يتذكر كل هذه البشارات؟

ألم يكن طبيعيًّا حين ذكَّره عبد الله بن عباس وسط همِّه بملاقاة الله وخوفه من الامتثال بين يديه بقوله: أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقُتلت شهيدًا.. ألم يكن طبيعيًّا أن تكون كل هذه الفضائل سببًا في إراحته من همه؟

ألم تكن مواقفه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وحبه له، ودفاعه عنه، وتضحيته من أجله بالغالي والنفيس و… و… و… كفيلة بأن تشرح صدره؟

فلِم لم يحدث كل هذا؟

ترى ما هو حل هذا الإشكال؟

لا شك أن هذا كله سببه أنه كان يعيش حقيقة أنه لا شيء.. ولا شك أنه كان يعرف أن طاعته مهما بلغت فلن توافي قدر الله سبحانه.. وأنه كان يعلم يقينًا أن الطاعة من الله ابتداء وقبولها من الله انتهاء.. وأن نعمة الله عليه في توفيقه للطاعة أعظم من طاعته.

ولا شك أن عمر رضي الله عنه كان يعيش حقيقة المَدِين مع صاحب الدَيْن، فالله عز وجل دَينه لا يُكافئ ولن يبلغ سداده عمَلُ عامِل ولا طاعة طائع مهما بلغ.. وأن وقت سداد الدين قد حان، ولا أمل في النجاة من العقاب لتراكم الدَين وعدم السداد إلا أن يعفو صاحب الدَين بعفو منه، فينجو المَدين بفضل عفو صاحب الدَين لا بحجم ما قدّمه فكاكًا لرقبته.. فاشتد انكسار عمر لله عند موته.. وطلب أن يوضع خده على التراب إظهارًا للانكسار، ومبالغة في الاعتذار..

عاش عمر أنه لا شيء فما رأي طاعته، ولا صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا حتى موتته بأعظم ميته – الشهادة في سبيل الله – فلم يزل يطلب العفو وكأنه الموحول في الكبائر طول حياته.

عاش عمر منكسرًا من أول لحظات إسلامه، فانكسر حين سمع كلام الله ساعة عَلِم بإسلام اخته وزوجها، وقد انكسر حين هزَّه النبي هزة شديدة في دار الأرقم عند إسلامه، وقد انكسر حين رأي لنفسه فضلًا عندما أتته الوفود بالسمع والطاعة فصعد المنبر وذكر أنه كان يرعى الغنم مقابل بضع تمرات… .

القرآن وانكسار عمر:

الواضح الجلي من سيرة عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه أن القرآن كان أهم عوامل الانكسار في حياته وشخصيته، فلقد شغله القرآن شغلًا شديدًا حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ أواخر سورة الحاقة عند الكعبة، ثم بدأت سلسلة الانكسارات المعروفة في سيرة سيدنا عمر بدأ بالموقف الذي ذكرناه آنفًا – موقف أخته – ومرورًا ببكاءه من آيات صدر سورة الطور إلى قوله تعالى {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ…} [الطور: 7، 8].. ومرورًا بخوفه وبكائه من قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20]، ليزهد في الحياة ويترك زينتها …

وقد انكسر عمر من هول آيات العذاب، وانكسر عندما اتهمه أحد الناس بأنه ما يحكم بالعدل ولا يعطي الجزل، فذُكِّر بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، ووصفه أصحابه أنه كان وقَّافًا عند حدود الله…

وكان القرآن يصدع قلبه ويبكيه، قال الحسن البصري: كان عمر رضوان الله عليه يمُرُّ بالآية من ورده بالليل فيبكي حتى يسقط، ويبقى في البيت حتى يُعاد للمرض.

ولقد طال بكاؤه حتى خُطَّ وجهُهُ رضي الله عنه بخطين أسودين من طول البكاء.

فالقرآن هو المزلزل الأول لعمر، وهو الذي حوَّله من عمر القديم الفظ الغليظ، إلى عمر الرقيق الوجل المنكسر.

ولعل حال عمر مع القرآن وما توصَّلنا إليه من أنه كان سبب انكساره يدفعنا لنسأل أنفسنا، هل من الممكن أن يكسرنا القرآن كَسرة عمر، أم أننا تعودنا على ألا تكسرنا إلا المصائب، فإذا ما ولَّت عدنا إلى ما كنا عليه {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12]، {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر: 8]، {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49]، وتلبَّسنا بأسوأ الأحوال من رؤية النفس، والعُجب بالعمل، وازدياد العزة الزائفة بأنفسنا، وتضخم الذات المقيت الذي هو السبب في كل شر ومصيبة كما قال ابن عطاء: وازدياد العزة الزائفة بأنفسنا، وتضخم الذات المقيت الذي هو السبب في كل شر ومصيبة كما قال ابن عطاء الله السنكدري: أصل كل معصية وغفلة وشهوة: الرضا بالنفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة: عدم الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلًا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه. فأي علم لعالم يرضى عن نفسه ؟! وأى جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه ؟![2].

أليس في القرآن ما يدفعني وإياك إلى النظر إلى تلك النفس بأنها المهلكة فنحذرها كما حذرها عمر، ونكسرها كما كسرها عمر، فلا نرى لأنفسنا عمل مهما بلغت أهميته وفضله، ولا نرى لأنفسنا فضلًا مهما تقلّدنا من مناصب دعوية، وازدحمت حياتنا بإنجازات دعوية، فنعيش ونموت على الحقيقة الواضحة بأن النجاة من الله وحده، وأن الذي عجز عن آداء الدّين لا ملاذ من العقاب له إلا التذلل الشديد والانكسار الواضح لصاحب الدين كي يتفضل، ويجود، ويمُن بالعفو والتجاوز والصفح عن الجُرم والتقصير في السداد {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21].

ما أحوجني وكل من يريد النجاة إلى أن يجأر إلى الله بالدعاء: اللهم ردّني لأصلي، أوقفني عند حقيقة نفسي، لعل القلب والعقل يتبصران بمقامهما من الله، فلا نبرح عتبة العبودية طرفة عين، ونعتذر إليه – سبحانه – مما لا يليق به من طاعاتنا وسيئاتنا كما اعتذر عمر رضي الله عنه وأرضاه.

ووصيتي لي ولك أخي: ألا تنخدع بإطراء وتملق الناس، فكلنا أعلم بحال نفسه، وبمدى تقصيرها في حق الله سبحانه.

الخلاصة:

والخلاصة: أن سيدنا عمر رضي الله عنه، ذلك الرجل الكبير القدْر، العظيم المكانة عند الله وعند المؤمنين، ما وصل إلى ما وصل إليه إلا بانكساره، لذا فلا نبالغ إذا قلنا أنه : «لمَّا انكسر.. صار عمر».

وصل اللهم على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين

[1] البخاري، ك فضائل الصحابة، رقم 3692.

[2] الحكم العطائية .