مواقف تربوية

الرسول صلي الله عليه وسلم وجابر بن عبد الله

الكاتب: الأستاذ الدكتور مصطفي عبد الواحد

روي الإمام أحمد في مسنده والبيهقي في دلائل النبوة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: نَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “مَالِي أَرَاكَ مُهْتَمًّا؟” قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُتِلَ أَبِي، وَتَرَكَ دَيْنًا وَعِيَالًا، فَقَالَ: “أَلَا أُخْبِرُكَ؟” مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا” فَقَالَ: يَا عَبْدِي سَلْنِي أُعْطِكَ، قَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ: أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ، وَقَالَ: يَا رَبُّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [سورة آل عمران آية 169].
فهنا نقف أمام دروس رائعة في رعاية الرسول صلي الله عليه وسلم للشباب وحله لمشكلاتهم :

لقد لاحظ صلي الله عليه وسلم ظهور علامات الحزن والهم علي وجه ذلك الشاب اليافع من شباب الإسلام الأطهار, جابر بن عبد الله – فسأله (مالي أراك مهتمًا).. وهذا السؤال في ذاته مفتاح لحل المشكلات .. فلابد من تقريرها والإفضاء بها.., ثم يكون العلاج..

وكان جواب جابر: أن سبب همه: هو استشهاد أبيه.. وقد ترك دينا يحتاج إلي سداد .. وعيالا يحتاجون إلي رعاية

وقد رأى النبي صلي الله عليه وسلم بحكمته التربوية ونظرته الثاقبة أن الأمر يتطلب إخراج جابر من دائرة حزنه الضيقة أولا ونقله من الحزن إلى السرور حين يعلم الكرامة التي نالها أبوه عند الله سبحانه وتعالى بعد استشهاده في وقعة أحد فقال له صلى الله عليه وسلم: ” ألا أبشرك” وكانت البشارة النبوية كفيلة بأن تملأ قلب جابر بالفخر والاعتزاز والفرح بالدرجة العليا التي نالها أبوه إذ كلمه الله سبحانه وتعالى وقال له: “يا عبدي سلني أُعطك”..

.. ولم ينته حل مشكلات جابر بن عبد الله رضي الله عنه عند حد البشارة بل اتجه صلي الله عليه وسلم إلى معالجة وقائع المشكلة وكانت البداية بالدين ذلك الهم الثقيل الذي يقض المضاجع ونستطيع أن نقول بلغة عصرنا أنه يمثل المشكلة الاقتصادية التي يواجهها شاب يحمل مسؤليات أسرته..

وفى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما والإمام أحمد في مسنده تفصيل للكيفية التي أعان بها الرسول صلوات الله وسلامه عليه جابر بن عبد الله في حل مشكلة الدين الذي تركه أبوه يقول جابر بن عبد الله (… وترك أبى عليه دينا من التمر فاشتد علي بعض غرمائه في التقاضي فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك عليّ دَيْنا من التمر واشتد علي بعض غرمائه في التقاضي فأحب أن تعينني عليه لعله أن ينظرني طائفة من تمره إلى هذا الصرام المقبل فقال: “نعم آتيك إن شاء الله قريبًا من وسط النهار”..

..فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادر إلى الوقوف مع جابر بن عبد الله إزاء المشكلة التي سببت الهم مما جعل انبي صلى الله عليه وسلم يقول له: “مالي أراك مهتما”.. وهذا يدلنا علي أن علاج المشكلة النفسية للشباب في الإسلام لا يقوم علي توجيه النصح فحسب، بل يُقرر أن للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وطأتها الشديدة، وان المواعظ وحدها لا تكفي، ولابد من مجابهة وقائع الحياة بما يعين الشباب المسلم علي الاستقامة ويريحه من وطأة الهموم..

وفي هذا الحديث الشريف تفصيل لكيفية قضاء دَين جابر رضي الله عنه.. لقد زاره النبي صلي الله عليه وسلم في بيته، وهذا إيحاء أَوَّلي برغبة النبي صلي الله عليه وسلم في معونة جابر ومساندته في مشكلته، فلعل أصحاب الدَّين يفهمون هذا المعنى فينظروه أو يبرئوه من بعضه، وبعد ذلك قال الرسول لجابر: “ادع لي فلانا” يريد غَريمه الذي اشتد عليه في الطلب فلما جاء قال له الرسول صلي الله عليه وسلم أيسر جابر بن عبد الله- يعنى انظره إلى الميسرة – طائفة من دينك الذي علي أبيك إلى هذا الصرام المقبل)..

وكانت المفاجأة أن هذا الغريم المشتد في الطلب رفض ذلك.. وقال للرسول صلي الله عليه وسلم ما أنا بفاعل . واعتل وقال إنما هو مال يتامى، وهكذا استنفد النبي صلي الله عليه وسلم الوسائل الممكنة للتوفيق بين جابر ودائنه .. وحين رفض الدائن أنظار جابر.. لم يجبره الرسول صلي الله عليه وسلم علي الأنظار..

فماذا صنع صلوات الله وسلامه عليه؟

لقد قال: “أين جابر؟” فقال: أنا ذا يا رسول الله. قال: كِلْ له فان الله عز وجل سوف يوفيه.. وهنا كانت معجزة من معجزات رسول الله صلي الله عليه وسلم في تكثير الطعام القليل عند الحاجة، لقد لجأ الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلي ربه تبارك وتعالي ليوفي دين جابر.. حتى يذهب عنه الهم الذي ركبه.. قال جابر: فكِلتُ له.. فوفاه الله عز وجل وفضل لنا من التمر كذا وكذا.. فجئت أسعى إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم في مسجده كأني شرارة, فوجدت رسول الله صلي الله عليه وسلم قد صلي, فقلت: يا رسول الله الم تر أنى كلت لغريمي تمره, فوفاه الله, وفضل لنا من التمر كذا وكذا ؟ فقال: “أين عمر بن الخطاب ؟ فجاء يهرول فقال: سل جابر بن عبد الله عن غريمه وعن تمره”, فقال: ما أنا بسائله, قد علمت إن الله عز وجل سوف يوفيه. إذ أخبرت أن أخبرت أن عز وجل سوف يوفيه.. فقال: “يا جابر ما فعل غريمك وتمرك؟” قال: قلت: وفاه الله عز وجل وفضل لنا من التمر كذا وكذا .

سقنا هذا الحديث مختصرا لنري فيه صورة من وقائع حياة المجتمع الإسلامي الأول, الذي ثبتت فيه الدعائم, وتبنيت مناهج الهداية والاستقامة.. لنري كيف عرفوا أن الهموم النفسية إذا كانت ترجع إلى أسباب مادية فلا بد من معالجة تلك الأسباب. ثم لابد من تغيير المناخ النفسي للشباب الذي إصابته الهموم وأحدقت به المشكلات..

.. وقد رأينا في هذه القصة كيف بشر الرسول صلي الله عليه وسلم جابرا بحال أبيه بعد استشهاده.. وكيف حول حزنه علي فقده إلى سرور بمكانته عند ربه..

وكيف أحاط الرسول صلي الله عليه وسلم جابرا بعنايته.. وكرمه بزيارته في بيته.. وفاوض غريمه فلما أبى لم يترك الرسول صلي الله عليه وسلم جابرا في محنته؛ بل لجأ إلي مسبب الأسباب، وطرق باب خوارق العادات.. فالأمر خطير.. وجابر بن عبد الله شاب في مقتبل عمره.. يحمل هموم دين وأعباء أسرة. واستجاب الله لرسوله .. فبارك في تمر جابر القليل حتى قضى منه دينه .. وبقي له ما يقوت به أسرته.

وهكذا سن الرسول صلى الله عليه وسلم للمجتمع المسلم سنة رعاية الشباب والوقوف معهم في الضيق والشدة, وحذرنا أن نقف موقف المتفرج علي هموم الشباب أو أن نكتفي بالوعظ والنصح .. أو بالزجر والتـأنيب.

إن الذين يقفون في عصرنا موقف التوبيخ للشباب والإزراء علي مسالكه واستنكار انحرافاته دون أن يتبينوا الأسباب ودون أن يعملوا علي حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية – هؤلاء يفقدون التأثير والجدوى، ويصبحون فتنة للناس، وكأنهم يتلذذون بإسداء النصح وتوجيه التحذير والزجر.

ولكن أين هم من قضية العلاج والإصلاح؟

إذا كان أكثر الشباب المسلم اليوم عاجزين عن إعفاف أنفسهم بسبب الضيق المادي, والأزمات الاقتصادية الطاحنة, وبسبب شح الأغنياء وتقاعس القادرين علي البذل والعطاء.. فهل يغنى شيئا أن نكتفي بالإنذار والتحذير والتوبيخ لشباب يعانون من إلحاح الغرائز, ووطأة المغريات ثم لا يجدون منا إلا الوعظ والإنكار؟

فهلا اقتدينا بالمنهج النبوي الحكيم الذي يتجلي في قصة جابر بن عبد الله؟!!

منقول من كتاب الإسلام ومشكلات الشباب