الكاتب: أبو الحسن الندوي
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال : 73]
كلما أقرأ الآيات الأخيرة من سورة الأنفال عجبت وعجبت وكدت أحار وأُغلب على أمري ، إذا قرأت قول الله تبارك وتعالى ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال : 73]
لمن يقال هذا ؟ لهذه الحفنة البشرية التي تألفت من المهاجرين والأنصار ، تألفت من الأنصار أصحاب الدار، ومن المهاجرين المغتربين الذين لم يتجاوز عددهم خمسمائة وألف. لقد حثَّ الله على المؤاخاة الإسلامية وربط المهاجرين بالأنصار والأنصار بالمهاجرين، وأثار فيهم روح الأخوة الصادقة وحثهم على أن يكونوا وحدة جديدة ، وحدة تقوم على الإيمان وعلى الكلمة وعلى الترحم للإنسانية ، تقوم على المبدأ والعقيدة ، فقال لهم: إذا قصرتم في إنشاء هذه الأخوة وفي تكوين هذه الوحدة التي جهلها العالم وتناساها التاريخ، وبكلمةٍ أصح : نسيها التاريخ منذ مئات السنين ، إذا قصرتم في إنشاء هذه الوحدة التي تقوم على الرسالة الفاضلة ، وعلى الأخوة الصادقة المخلصة : فإنها تكون فتنة في الأرض وفساد كبير ﴿ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ .
ما نسبة هذه القلة القليلة التي كانت تعيش في يثرب – التي سميت بعد ذلك بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم-؟
ما وزن هذه القلة ، وما عدد أفرادها؟
وما وزن هذه القلة في الميزان السياسي وفي الميزان الدولي وفي الميزان الاجتماعي وحتى في الميزان العلمي؟
إنهم – كما أعتقد – لم يبلغ عددهم ألفين.
كان الرومان والفرس هم المؤثرين في مسيرة الإنسانية، وهم الذين كانوا يُسيِّرون سفينة الحياة وسفينة الحضارة ، وهم الذين كانوا يتصرفون في وسائل الأمم – إذا صح هذا التعبير – وفي أوضاع العالم، هل يقال لهم : ﴿ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ .
قيسوا أولًا روعة الكلمة وحجمها: ﴿ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ ﴾ ، ما أكبر حجمها وما أثقل وزنها !! ولم يقل : ﴿ َفَسَادٌٌ﴾ فحسب ، بل ﴿ َفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ .
هذه قيمة الأمة المسلمة حين كانت في عدد المئات، في عدد ألف أو ألفين، هذا هو التصوير الصادق ـ وإعطاء هذه المجموعة هذا الوزن الكبير ، وهذه القيمة الكبيرة ، وهذه المكانة الرئيسية في خريطة العالم ومجموع الأمم.
فثبت بذلك أن المسلم بقيمته لا بقامته ، وأن الأمة المسلمة برسالتها وإيمانها وعقيدتها وفضلها الخلقي وضميرها الحي ، وبالروح المتغلغلة في الأحشاء ، المسيطرة على الشعور وعلى العقل والتفكير.
قيمة هذه الأمة في هذه الخصائص التي أكرمها الله بها ، ليست بكثرة العَدد والعُدد ، ولا بكثرة المساحة المكانية التي تسيطر عليها وتحكم فيها ، ولا بالفخامة وبحجم المساحة الزمانية التي تؤثر فيها.