مما لا شك فيه أن طريق الإصلاح الصحيح يبدأ بالتغيير الداخلي الإيجابي لأبناء الأمة، ولا يمكن لهذا التغيير أن يتم إلا من خلال التربية، ولكن ما هو مجال عمل التربية ؟
ما المناطق التي تحتاج إلى تغيير داخل الإنسان لتظهر عليه ثمار العبودية لله عز وجل ؟
هذا ما تتناوله – بعون الله – الأسطر القادمة:
خلق الله عز وجل الإنسان وجعل تكوينه يشمل أربعة مكونات رئيسية هي: العقل والقلب والنفس والجسد.
والإنسان يبدأ رحلته على الأرض -منذ خروجه من رحم أمه- بهذه المكونات الأربع وهي غير مكتملة النمو، بل جعلها الله سبحانه تبدأ صغيرة، محدودة الإمكانات، لتنمو بعد ذلك بما أودع فيها من خاصية النماء.
ونماء هذه المكونات يستلزم دوام إمدادها بالغذاء الذي يناسبها.
فالجسد يُخلق صغيرًا ضعيفًا، ولكي ينمو لابد له من غذاء متنوع يلبي احتياجاته ويترك فيه أثره الدائم، وينتج عنه دومًا طاقة تدفع صاحبه للنشاط والحركة.
ومع ضرورة إمداد الجسد بالغذاء المناسب لابد كذلك من دوام توجيه نشاطه وحركته بالطريقة التي تساهم في نجاح المرء في أداء وظيفته على الأرض.
وما ينطبق على الجسد ينطبق على العقل والقلب والنفس، فلابد لهذه المكونات الثلاثة من تربية وإنماء حتى تكتمل وتصلح ويساهم كل منها بأثره في تنشئة المسلم الصالح المصلح الذي يقوم بوظيفته الأساسية؛ ألا وهي عبوديته الحقة لربه، وإقامة دينه في نفسه، ثم في نفوس المسلمين، وأن يجتهد في تبليغه للبشر أجمعين ما وسعه الجهد .
وكما أنه من الضروري استمرار تعاهد البدن وإمداده بما يصلحه حتى يستمر في النمو والتمتع بالصحة والحيوية؛ كذلك لابد من تعاهد العقل والقلب، والنفس بالإمداد بما يصلحها، ودفع ما يضرها حتى يستمر نموها المعنوي في الاتجاه الصحيح، وبخاصة أن كلاً منها يبدأ الحياة كما يبدأ الجسد.. محدود الإمكانات والقدرات، و لديه قابلية للنماء.
فالعقل يبدأ الحياة وهو فارغ من أي مخزون معرفي ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: 78].
والقلب يولد على الفطرة كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة»[متفق عليه]
والنفس تبدأ رحلتها في الحياة ولديها القابلية للفجور والانفلات، وكذلك القابلية للاستكانة والتطويع ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[الشمس: 7، 8]
ولئن كان أمر تعاهد البدن وتربيته لا يحتاج إلى توجيه دائم -فيما يخص الغذاء- باعتبار أنه أمر محسوس وظاهر؛ إلا أننا لا نتعامل مع عقولنا وقلوبنا وأنفسنا بنفس الدرجة من الاهتمام لأننا -من ناحية- لا نراهم بأعيننا، ولا نكاد نستشعر احتياجاتهم.
ومن ناحية أخرى فإن هذه المكونات الثلاثة يحدث لها نمو ولكنه -في الغالب- ليس بالشكل المطلوب، أو في الاتجاه الصحيح، فعلى سبيل المثال:
العقل -بعد الولادة- يبدأ في استقبال المعلومات من كل الاتجاهات دون تمييز بين صحيحها وسقيمها، ثم تبدأ هذه المعلومات شيئًا فشيئًا في تشكيل يقينه ومعتقداته ونظرته للحياة ومفرداتها.
من هنا تبرز أهمية التربية الصحيحة، فالمسلم لن ينصلح حاله، ولن يكتمل نموه، ولن يرى الثمار الصحيحة لعبوديته لربه عز وجل إلا إذا اهتم بالجوانب الأربعة التي تشكل كينونته.
فعندما يُترك العقل دون تربية وإنماء في الاتجاه الصحيح، فمن المتوقع أن يفشو الجهل، وتتغير الأولويات، وتضطرب المفاهيم، وتكثر الشبهات، وتظهر البدع والعقائد الفاسدة.
وعندما يُترك القلب بدون تعاهد وإمداد إيماني فإنه سيصبح أسيرًا للهوى تابعًا له.. كلما اشتهى فعل، وكلما رغب اندفع.. لا يبالي بحلال أو حرام.. تتبلد مشاعره وتقسو، فلا يكاد يتأثر بموعظة.
وعندما تُترك النفس بدون تزكية، فستجد أمامها المجال مفتوحًا للفجور والطغيان وسوق صاحبها لفعل الفواحش والموبقات.
وعندما تُترك حركة المرء وجهده البدني بدون توجيه فمن المتوقع أن يستهلكها في تحقيق شهواته ورغائبه دون ضوابط.
.. كل هذا سيؤدي إلى التخبط والضياع في الدنيا، والابتعاد عن الطريق المستقيم.. طريق العبودية لله عز وجل ، ومن ثمَّ يكون الخسران – والعياذ بالله – في الآخرة.. تأمل قوله – جل ثناؤه- وهو يصف حال أناس تركوا التزكية والتربية الصحيحة، فتعطلت عقولهم، ومرضت نفوسهم وقلوبهم، واتجهت حركاتهم ونشاطهم نحو الأرض والطين لتحصيل واستيفاء الشهوات: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179].
فالذي لا يستخدم هذه المكونات فيما خلقت من أجله – بل ويمدها بما يضرها- كمن يتعلم ما يضره ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ [البقرة: 102]، ومن ثم فإن مرتبته تنحط لتصبح دون الأنعام، وكيف لا، والأنعام لم تكلف بما كلفنا به، ولم تعط من الإمكانات مثل ما أعطينا ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [الفرقان: 44].
لذلك فإن من يهمل التربية الصحيحة فإنه ينحدر إلى أسفل، ويزداد هذا الانحدار كلما كانت تغذيته لعقله وقلبه ونفسه تغذية عكسية.. وهكذا حتى يصل إلى أسفل السافلين، ويصبح مثل الأنعام في الاهتمامات، ودونها في المرتبة ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنفال: 55].