الكاتب: الدكتور سلمان العودة
السلام مع النفس هو أول خطوات السلام وإذا عاش المرء وئاماً مع نفسه استطاع أن يصنع هذا الوئام مع الآخرين، قال الله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) [النور: من الآية61]، ويقول المؤمن في صلاته: (السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِين)، بل جاء في لغة القرآن إطلاق النفس على المجموع كما ههنا؛ فمن الإشراق في أعماق النفس ينبثق السلام.
السلام مع النفس أن تكون العلاقة قائمة على وضوح الأهداف وشفافية المقاصد وصفاء التعامل والانسجام الداخلي.
فإن أحق ما يعرفه الإنسان بعد معرفة ربه هو أن يعرف نفسه وينشغل بتكميلها وإصلاحها قبل انشغاله بغيره.
كما يتعرف على مواهبها وقدراتها وطاقاتها ومحاور ضعفها وقوتها، وهل تتصف نفسه: بالصبر أم بالجزع بالاستعجال أم التأني بالخجل أم الجرأة والإقدام؟ هل فيها صفة الدأب والاستمرار أم الملل والانقطاع؟
وهذا من شأنه أن يجعل الإنسان يقف على حقيقته؛ فيستطيع أن يسير في الاتجاه الصحيح موظفاً قدراته ومستغلاً إمكاناته.
وليس من معرفة طبيعة النفس وسلبياتها وإيجابياتها أن يقع الإنسان في فخّ البحث عن كنه وماهية الروح فهو جهد ضائع لن يتعدى النص المحكم، وقد قال الله عز وجل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)[الإسراء:85].
ولكن أن تقف على حدود شخصيتك وخبايا نفسك وحقائق طبيعتك لتوظفها في الخير وتبعدها عن الشر.
والشرع يقدر للإنسان طبيعته ويعطيها حكمها أحياناً ولا يثرّب على ذلك ولا يعاقب عليه حتى في أنبياء الله ورسله عندما يتصرفون بإملاء من الطبع البشري المحض والصفة الغريزية البحتة، فهم بشر أولاً وآخراً، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: “نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ”[ رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة]، فنبي الله إبراهيم يتشوف إلى المعرفة ويطمح إلى الوقوف على حقائق الأمور؛ بحكم الفطرة، ويومئ النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: “لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ” إلى الجانب البشري الطبعي في الإنسان من محبته للحرية والانطلاق وعدم تقييد نفسه وكبت ملكاته خاصة إذا طال به الأمر.
وموسى عليه السلام يعرف نفسه ويصرح بما يشعر به دون مواربة أو استحياء؛ فيتحدث عن خوفه الفطري قائلاً: (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ)، (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى)؛ فهكذا معرفة الإنسان نفسه وسلامه معها يوقفه على طبيعتها، ويعرفه بقدراته، ويحدد هدفه وموقفه فيمشي على بينة من أمره.
السلام مع المبادئ والقناعات والمثل أن تقول وتعمل ما تؤمن به ومستقر في ضميرك وتدين ربك بمقتضاه مما هو حق ثابت دون أن يكون معيارك في ذلك رضا فلان أو سخط عِلاّن وأن تمضي بك الحياة في دوامة من المجاملات المفرطة والاستسلام لما حولك ولمن حولك دون أن يكون لديك ممانعة أو استقلال.
ومن السلام مع النفس التوافق والانسجام بين ظاهر النفس وباطنها، وذلك يكون بين القول والفعل (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصف:3]، وهذا يتطلب استقامة وسيراً على منهج صحيح، والاستقامة عرفها النبي –صلى الله عليه وسلم- عندما سأله سفيان بن عبد الله الثقفي: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً، لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: “قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ” [رواه مسلم] بالتوافق والانسجام بين العبادات والمعاملات، فتكون العبادة سبيلاً لضبط المعاملة وحفظ الحقوق ورعاية العدل والتخلص من الازدواجية المقيتة بين ما يفعله في المحراب وما يمارسه في السوق أو المكتب.
والكثير من الإخفاق والانتكاس يحدث للهوّة السحيقة التي يعيشها البعض بين عبادة الظاهر وانحراف الباطن.
فنحن بحاجة ماسّة وضرورة ملحة إلى تعميق الإيمان في القلب وتقويته وأن نأوي فيه إلى ركن شديد فإن الحياة الدنيا مبنية على الخطر ومداهمة الإنسان بما لا يتوقع من نكبات ومصائب في نفسه أو أهله أو ولده أو وظيفته فيصيبه الانكسار والجزع الذي لا ينجيه منه إلا عمق إيمانه بالله والعبادة الحقيقية التي تشمل عبادة القلب قبل الجوارح، وليست عبادة الجوارح فقط.
السلام بين الطموح والقدرة بين ما نريد وما نملك بين ما نملك وما نستطيع تقديمه، وأن يكون هناك اعتدال وتوازن بين هذه المعاني، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ”، وفي رواية لأبي داو: “اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ”، وذلك في كل شيء، وفي طلب الماديات فربما طمع الإنسان فهلك.
أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرّا
السلام في الدعوة، فلا نتصور أن يكون العالم كله تحت تأثير دعوتنا أو ينبغي أن يكون كذلك، فهذا شيء لم يحصل حتى للأنبياء والرسل، فكما تعمل فغيرك يعمل وربما يهدم ما تعمل.
السلام مع الطبائع؛ فلا يتكلف الإنسان ضد طبعه أو ما ليس منه وأن يكون منسجماً مع نفسه، هذا محمد –صلى الله عليه وسلم- يقدم له الضب، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟!
فقَالَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ” لا. وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ “، فيتركه النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لا يتوافق مع طبعه، فليست المسألة تحريماً أو تحليلاً، لكن ملاءمة الطبع.
وها هو موسى عليه السلام يأخذ برأس أخيه يجره إليه: (يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي)[طـه: 94]، فهذا بمقتضى الطبع وعفويته بلا تكلف ولا تردد، فهذه طبيعة محمودة.
وكذلك الصحابة -رضي الله عنهم- كل منهم كان له طبعه؛ فأبو بكر غير عمر، وقصة أسرى بدر شاهد على ذلك، فقد حكم كل واحد منهم بما يلائم طبعه ما دام أن في الأمر سعة.
فأبو بكر فيه لين وسماحة وقدّر الرسول –صلى الله عليه وسلم- له ذلك، وعمر الفاروق فيه قوة وشدة وقدر الرسول له ذلك.
فاعرف طبيعتك واصنع معها سلاماً ولا تعاندها وتحملها على ما ليس من خصائصها.
وقد قال عمر بن عبد العزيز: “ألذ شيء هوى وافق شرعاً”.
السلام مع القدر والتسليم والرضا بما كتب الله مع مدافعة القدر بالقدر؛كما قال عمر -رضي الله عنه-: “نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله”، فالمؤمن مسلم بقدر الله وراض به تمام الرضا حتى لا يحب تعجيل ما أخّر ولا تأخير ما عجل.
فالمعاق الذي لا يُرجى شفاؤه والدميم الخلقة من ذكر أو أنثى والفقير الذي لا مال له والبسيط الذي لا علم عنده ولا قدرة له على النظر والتعقل والأرملة واليتيم وكل أصحاب الابتلاءات والمصائب بحاجة ماسة إلى صنع سلام مع القدر والرضا بما كتبه الله تعالى وقدر، ومدافعة القدر بالأسباب الممكنة والتسليم المطلق بما لا يقع تحت الإمكان دفعه.
الإنصاف من نفسك والتخلص من الأنانية والهوى والشح، كما كان عَمَّار –رضي الله عنه- يقول كما في صحيح البخاري: “ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ”.
لماذا إذا اختلف أحدنا مع أخيه لا يحاول أن يضع نفسه مكان أخيه ويرضى له بما يرضاه لنفسه، وأكاد أجزم أنه لا يوجد في الدنيا من عنده إنصاف من نفسه إلا من رحم الله وقليل ما هم، قال صلى الله عليه وسلم: “يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ”.
عَجِبْت لِمَنْ يَبْكِي عَلَى مَـــوْتِ غَيْرِهِ دُمُوعًا وَلا يَبْكِي عَلَى مَوْتِهِ دَمَـــا
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ عَظِيمًا وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِهِ عَمَى
فهم التدين فهماً سليماً صحيحاً خالياً من التمحلات والهوى الشخصي، فهماً لا يتقاطع مع الفطرة؛ فإن الإسلام نفسه هو دين الفطرة، ولا يتجافى مع ذوق سليم ولا وجد صحيح ولا واقع طبيعي دون خضوع واستسلام.
والسلام مع العقل في إيمانه بالغيبيات التي جاءت بها الرسل، وهي لا تناقض العلم الصحيح ولا العقل الصريح؛ فيسلم بها دون أن يتحول إلى عقلية أسطورية تقبل كل ما يلقى إليها بلا فحص أو تمحيص، فالغيب فوق العقل والأسطورة تحت العقل.
وبإعمال العقل وترك التقليد؛ فالعقل للتمييز وليس للحفظ فحسب!.
وقد أشار العز بن عبد السلام –رحمه الله- إلى أن المصالح والمفاسد تدرك بالعقل قبل ورود الشرع. وأقول: وبعد وروده أيضاً، وذلك في فهم القرآن والسنة والترجيح، وتقدير المصلحة والمفسدة دون افتئات على العقل وتكليفه ما ليس من مجاله والمبالغة في تقديره؛ فإن له خطوطاًَ حمراء لا ينبغي أن يعدو قدره عندها.
ومعالجة الوساوس التي ترد على عقل الإنسان وخاطره؛ فتكدر عيشه، وهي إما شرعية أو دنيوية، وغالبها حالات نفسية، وهي تعالج بإهمالها، وعدم الالتفات إليها، وبالدعاء والاستعاذة بالله وبالوصفة النبوية بقراءة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وأن يستجمع الإنسان كل طاقته ويعزم على عدم تلبية أوامر وساوسه من طهارة ووضوء وشك وغيره، وأن يعتبر ذلك حالة طوارئ إلى أن يكشف الله عنه ما هو فيه، والله عز وجل إذا علم صدق النية أعان.