بداية أعتذر لك – أخي القارئ – على طول هذا المقال، فهو يحتوي على قصة تربوية، لا يصلح – من وجهة نظري – اختصارها، أو تقسيمها على عدة مقالات..، وها هي القصة بين يديك:
صلى الشيخ العصر بالناس ثم جلس يذكر الله، وفي تلك الأثناء بدأ بعض المصلين يتوافدون عليه ويلتفون حوله ليستفتوه ويطلبوا مشورته، وكان من بينهم شاب في أواخر العشرينات ظل يؤخر نفسه حتى فرغ الشيخ من أسئلة الحاضرين وانصرفوا جميعًا، فتقدم هذا الشاب للشيخ وقال له: أرجو منك يا شيخنا أن تُفرِغ لي من وقتك الثمين بضع دقائق أقُص فيهم قصتي وأعرض مشكلتي التي أرَّقتني فلم أذق طعم النوم منذ البارحة..
فقال الشيخ: هات ما عندك.
بدأ الشاب بالحديث قائلًا: منذ عدة سنوات شرح الله صدري للإيمان والالتزام بأوامر الدين، وبدأت أواظب على الصلاة في المسجد، وبمرور الأيام ازداد ارتباطي به، وقد تعرفت فيه على بعض الشباب الصالح، ونشأت بيننا عاطفة الحب في الله، وتوثقت رابطتها في قلوبنا..
كنا نجلس يوميًا بعد صلاة المغرب نقرأ القرآن ونتدارسه، وفي يوم من الأيام جلس معنا أحد المصلين، وظل منصتًا لحديثنا إلى أن حدث خلاف بيننا حول حكم من الأحكام الفقهية فاستأذن للحديث، وانطلق يشرح الحكم وآراء الفقهاء فيه، وذلك بأسلوب سهل وشيق مَلَك عقولنا وقلوبنا، فطلبنا منه أن يستمر في حضور جلستنا، وأن يتولى إدارتها وأن يساعدنا في التعرف على أحكام ديننا، فوافق على طلبنا، وبدأنا نتدارس معه بعض كتب العلم.
استمر هذا الأمر عدة أشهر بدأت أشعر خلالها برغبة جارفة نحو الاستزادة من العلم الشرعي، فكنت أسأله عن مراجع أوسع وأكبر مما يُدرِّسه لنا، وكان يرشدني إلى بعضها فأشتريه أو أستعيره منه.
وبمرور الأيام ازداد نَهَمي للتعرف على أحكام الدين وفروع العلم، وكلما سمعت عن درس علم أسارع بالذهاب إليه والاجتهاد في الانتفاع منه، وشيئًا فشيئًا ظهرت آثار ما أكرمني الله به من علم على كلامي مع إخواني بالمسجد، وفي جلساتنا سويًّا مع أخينا الكبير، فكانت لي – في بعض الأوقات – إضافات وتعقيبات على كلامه، مع الحرص على صبغ أقوالي بصبغة الاحترام والتوقير له.
بعد مدة – ليست بالطويلة – بدأت ألحظ علامات الضيق بادية على وجه هذا الأخ كلما تكلمت، ثم تطور الأمر بعد ذلك تطورًا سيئًا، فكان يُسفِّه من كلامي ويشكك فيه، ويعمل على إحراجي بين الحاضرين، وكنت مع ذلك أجتهِد – قدر المستطاع – في إحسان الظن به والتماس الأعذار له.
ذهبت لزيارته في بيته عدة مرات، واجتهدت أثناء هذه الزيارات في إظهار مشاعر الحب والود التي يحملها قلبي تجاهه، ولكن ذلك لم يغير من الأمر شيئًا، بل ازداد الوضع سوءًا، فقد بدأت ألحظ تغيرًُّا في علاقة إخواني الشباب بي، وشعرت وكأنهم يتحاشون الجلوس معي، فذهبت إلى أحدهم في منزله واستحلفته بالله أن يصارحني بالحقيقة، فأخبرني بأن معلمه قد حذَّرهم مني، واكتشفت من خلال كلام هذا الصديق أنه كان كثير النقد لي، وكان يناقش معهم الكلام الذي أطرحه في جلستنا المسجدية فيُسفِّه منه، ويجتهد في إقناعهم بأنني كثير الخطأ ولا أصلح للتعلم، واستطرد صديقي قائلًا: ومن كثرة انتقاده لك صدَّقناه، وبدأنا نشعر بالفتور تجاهك، ولا نحب مجالستك، ولا نريد سماع آرائك..
عندما سمعت هذا الكلام – شيخنا – أصابني الذهول، وعدت إلى منزلي وأنا لا أصدق ما سمعت، وظللت أتقلب على فراشي طيلة الليل وأنا أشعر بضيق شديد في صدري، ولم يغمض لي جفن حتى هذه اللحظة، ولا أكتمك القول – سيدي – بأنني الآن في حالة شديدة من الاضطراب النفسي، ولا أدري ماذا أفعل، ولا كيف سأتعامل معه بعد ذلك، وقبل هذا وذاك: يلح عليَّ بقوة تساؤل لا أعرف إجابته: ما السبب الذي دفعه لفعل هذا كله؟!
انتهى الشاب من كلامه ووجَّه نظره للشيخ منتظرًا تعليقه واستشارته، فوجده في غاية التأثر، وإذا به يهب واقفًا ويقول له: حبذا لو أتيتني في الغد بمشيئة الله.
هل نسير إلى الأمام أم نتقهقر للخلف؟
خرج الشيخ من المسجد والدموع تترقرق في عينيه، وتذكر أنه كان قبل الصلاة قد استمع إلى نشرة إخبارية، وكان فيها أخبار كثيرة عن أحوال المسلمين البئيسة في شتى أنحاء العالم، وكان يُطمئِن نفسه بأن جيل الصحوة الإسلامية – الممتدة في ربوع العالم الإسلامي – قادم، وسيعيد للأمة – بإذن الله – مجدها وعزها، ولكنه عندما استمع لكلام الشاب شعر بأن الحلم الذي طال انتظاره قد لا يتحقق في هذه الحقبة من الزمن.
تصاعدت حدة الحوار الداخلي في نفس الشيخ، فتارة يقول: لعل هذا الشاب يبالغ في عرض المشكلة، ولو استمعت إلى الطرف الآخر فقد أكتشف هذه المبالغة، وأتعرف على الحقيقة كاملة، ولكنه يُجيب على هذه الشبهة فيقول: ولكن ليست هذه هي الحالة الأولى التي أتعرف من خلالها على هذه المشكلة، فلو افترضنا صحة أقوال الشاب؛ فإن التشخيص الصحيح لمشكلته هو: “الحسد” .
ولئن كانت تلك الجرثومة قد انتشرت بين العوام فهذا أمر متوقع منهم لضعف إيمانهم وتعلقهم بالدنيا، فالسبب الرئيس للحسد هو حب الدنيا، والرغبة في التميز فيها، وكراهية النجاح للآخرين لاسيما إن كانوا يشتركون مع الشخص في رابطة (ما) كالقرابة أو الدراسة أو العمل أو الجيرة … .
لكن الدعاة والعاملين للإسلام وطلبة العلم من المفترض أن يكونوا أبعد الناس عن ذلك، وكيف لا وهم الذين يعرفون حقيقة الدنيا، وأنها ليست بالشيء الذي يُتحاسد عليه، أما الآخرة فلا مجال للحسد عليها لأنها تسع الجميع، ومن الطبيعي أن يكونوا من طلاب الآخرة وليسوا من طلاب الدنيا.
الأنصار وحب الخير لإخوانهم:
وفي خضم هذا الحوار النفسي تذكر الشيخ موقف الأنصار الذين استضافوا إخوانهم المهاجرين في بيوتهم، وظلوا ينفقون عليهم من أموالهم – مع فقرهم وحاجاتهم – ولا يجدون في صدورهم حسدًا للمهاجرين على ما فضَّلهم الله به من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة. كما قال الإمام ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
قصة مُحزنة:
وبعد أن طاف في ذهن الشيخ موقف الأنصار من المهاجرين؛ قفز إلى مخيلته صورة ذلك الداعية الشاب النابه الذي قابله منذ بضع سنوات عندما جاءه بشكوى مماثلة للتي استمع إليها منذ قليل، وتذكر كيف أنه سأل عنه فعلم بتميزه على أقرانه في الفهم والاستيعاب وسعة الاطلاع، وتأكد من صحة شكواه بعد تعرفه على الطريقة التي كان يُعامل بها من بعض أقرانه، وكيف كانوا يتصيدون له الأخطاء، ويسفهون كلامه ويتعمدون إحراجه، وتذكر الشيخ محاولاته المتكررة معهم ليكفوا عن تلك الأفعال، وتذكر كيف كانوا يحاولون إقناعه بأنهم لا يريدون له إلا الخير، وأنهم لا يحملون في صدورهم تجاهه إلا الحب والود والتقدير، وأنهم يريدون مصلحته، لكنه شاب متسرع يحاول إظهار تميزه عنهم، مع أنهم قد سبقوه في مضمار العلم والدعوة بسنوات طويلة، و…، ومن خلال حديتهم المتكرر معه عن هذا الداعية النابه، أدرك الشيخ صعوبة حل تلك المشكلة؛ لأن لها أبعادًا نفسية تنطلق من حسدهم له، واستكثارهم عليه ما حباه الله من إمكانات، وما أفاض عليه من علم.
وتذكر الشيخ نصيحته لهذا الداعية الشاب بالصبر عليهم، وحُسن معامتلهم ، والدعاء لهم، ومقابلة إساءتهم بالإحسان.
وتذكر كذلك يوم أن جاءه باكيًا ليخبره بأنه قد عزم على ترك المكان، والسفر لبلد آخر لعدم استطاعته تحمل ما يحدث منهم، أو التعامل معهم بعد أن أذاعوا وسط العوام أنه رجل مغرور يحب الظهور، ولا يحترم من سبقوه، وأن له آراء شاذة وأفكارًا متطرفة و… .
ابن تيمية والحسد:
عاد الشيخ إلى منزله والألم يعتصره، ودخل غرفة مكتبته، وأغلق بابها، وانخرط في بكاء شديد وهو يحدِّث نفسه ويقول: ما علاج هذه الجرثومة الفتاكة التي تحرمنا من كفاءات كثيرة، وتضعف روابط الأخوة بيننا، وتبعدنا عن طريق النصر والتمكين، وتستدعي غضب الله علينا.
وبعد أن هدأت نفسه تجول بعينيه في مكتبته، فاسترعى انتباهه كتاب شعر كأنه لم يقرأه من قبل عن “استمرارية الدعوة”[1]، فتناوله ونظر في موضوعاته فوجدها تتحدث عن نماذج للدعاة في القرون الثمانية الأخيرة، فبدأ يقلب صفحات الكتاب، إلى أن وصل إلى حديث الكاتب عن الإمام ابن تيمية، وخلال قراءته لسيرته انهمرت الدموع من عينيه مرة أخرى، فلقد فوجئ بما حدث للإمام وما أصابه من ابتلاءات متنوعة من سجن ونفي وإيقاف، كل ذلك بسبب حسد العلماء له، لتميزه وسعة علمه وجرأته في الحق، وبدلًا من أن يراجعوا أنفسهم ويستفيدوا من علمه، انطلقوا يكيلون له الاتهامات ويؤلبون عليه الحكام حتى أقنعوهم بضرورة منعه من التدريس، ومعاقبته بالحبس، فسُجن عدة مرات، ومات رحمه الله في سجن القلعة بدمشق.
وفي أثناء قراءة الشيخ لسيرة الإمام ابن تيمية كانت مشاعره تهتز، ودموعه تنساب على وجنتيه، وكان مما قرأه: منذ ظهرت جماعة المعارضين للشيخ، وهو في محنة مستمرة، فقد كان يخرج من المعتقل ليُزجَّ به في السجن، وكان يُفرَج عنه من السجن ليُحبس في بئر، وهكذا كانت حياة شيخ الإسلام رحمه الله، ولم يكتف حساده وشانئوه بتدبير المؤامرات له ليُلقوه في المعتقل أو السجن، ولكنهم كانوا يُثيرون عليه الفَسقة والغوغائيين ليتحرشوا به في الطريق حتى اعتدوا عليه بالضرب[2].
.. لقد كان هذا ملخص قصة الإمام ابن تيمية مع حُسَّاده، فاشتد شغف الشيخ لمعرفة تفاصيلها فقلَّب صفحات الكتاب ليعرف المزيد..
ابن تيمية في مصر:
(قَدِم ابن تيمية إلى مصر في المرة الأولى مبعوثًا من الأمراء والشعب إلى السلطان ليحثه على الجهاد، ويطلب منه حماية البلاد، وقد وُفِّق في بعثته – رحمه الله -، وحضر السلطان وجنوده إلى الشام، ونصرهم الله على التتار.
أما في المرة الثانية فقد كان الشيخ مطلوبًا لدى السلطان، مُتَّهمًا نتيجة مؤامرة من بعض حاسديه الذين أزعجهم ما حاز عليه الشيخ من إعجاب الناس بعلمه وجرأته وشجاعته في الحق.
وكانت المؤامرة من تدبير أحد العلماء هو الشيخ نصر المنبجي، الذي كان مُعجبًا بالشيخ محيي الدين بن عربي، وكان شيخ الإسلام بن تيمية قد فنَّد كثيرًا من أقوال ابن عربي، وبيَّن خطأه فيها، فكان ذلك يغيظ الشيخ نصر ويضايقه، وكان للشيخ نصر صلة قوية بنائب السلطان في مصر، وكان له تأثير كبير عليه، حتى كان يرى رأي شيخه المنبجي في ابن تيمية.
عُقدت له جلسة المحاكمة بالقلعة، وحضر الجلسة القضاة ورجال الدولة، وكان خصمه الشمس بن عدنان، والقاضي ابن مخلوف المالكي، والتُهم الموجهة إليه: خلل في العقيدة، وخطأ في مسائل كلامية.
وأراد الشيخ أن يتكلم فحيل بينه وبين الكلام، وسأله القاضي أن يجيب عما وُجِّه إليه، فبدأ بحمد الله والثناء عليه، فقاطعوه وقالوا له: أجب، ما جئنا بك لتخطب.
لم يعبأ الشيخ بما وُجِّه إليه، وقال في شجاعة: من الحاكم فيَّ؟
فقيل له: القاضي ابن مخلوف المالكي.
فتوجَّه الشيخ نحو القاضي وقال له: كيف تحكم فيَّ وأنت خصمي؟
فغضب القاضي غضبًا شديدًا، وأصدر حكمه عليه بالحبس، وحُمل الشيخ إلى السجن دون محاكمة، وحُبس في برج أيامًا، ثم نُقِل منه ليلة العيد إلى الحبس المعروف بالجُب)[3].
(ومضى في الحبس قرابة العام ونصف، وخرج بعد توسط بعض الأمراء والقضاة المُحبين للشيخ، وواصل التدريس في مصر عدة شهور، والتف الناس حوله، ولكن هذا لم يُعجب حُسَّاده وبخاصة أنه كان يصدع بالحق ويُبيِّن ضلال أهل عقيدة الاتحاد والحلول[4]، فذهبت جماعة من الصوفية إلى السلطان يشكون ابن تيمية، فأمر بتشكيل محكمة تُعقد جلساتها بدار العدل، وتُحقق في الأمر.
انعقدت الجلسة، وحضر ابن تيمية، وتولى الدفاع عن آراءه فأسكت الجميع بحُججه القوية وبراهينه الساطعة.
وكانت التهمة الموجهة للشيخ أنه يقول جهارًا: لا يُستغاث إلا بالله، والاستغاثة بغير الله حتى ولو بالأنبياء لا تجوز.
وعُرِضت التهمة على العلماء، فقالوا: ليس عليه في هذه شيء، وقال القاضي: إن هذا فيه قلة أدب، أما أن يؤدي هذا إلى الكفر، فلم يقل به أحد..
..لم يعد للشكوى أي أثر بعد أن قال العلماء فيها ما يبرئ ساحة ابن تيمية، ولكن الضجة لا تزال قائمة، وأرادت الحكومة القضاء على ما يُثير غضب الناس، فأحضرت ابن تيمية وخيَّرته بين ثلاثة أمور: إما أن يسير إلى دمشق، أو يقيم في الإسكندرية بشروط يستوفيها، أو يختار الحبس. ولم يتردد ابن تيمية في اختيار الحبس، واستمر فيه قرابة العام، ثم سافر بعد ذلك إلى دمشق، واستمرت المؤامرات ضده، كلما أفتى بفتوى تُغضب أصحاب الأهواء، وعُقدت له محاكمة بسبب فتواه في مسألة الطلاق[5]، وحُبس في القلعة قرابة الستة أشهر، ثم أُفرِج عنه بعد ذلك. واستمر في التدريس والإفتاء، وكان رحمه الله قد أفتى منذ فترة طويلة بأنه لا يجوز شد الرحال لزيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، وكأن حاسديه لمَّا فشلوا في التأليب عليه عمدوا إلى هذه الفتوى فاستخرجوها ليثيروا بها عواطف الناس، ولقد أثارت الفتوى ضجَّة عنيفة أجبرت الحكومة على إصدار مرسوم بحبسه بالقلعة، وفي هذا الحبس مرض ابن تيمية، فزاره نائب السلطان وأخذ يعتذر له، ويسأله العفو، فأجابه ابن تيمية: إني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق، وأحللت السلطان الملك الناصر (سلطان مصر والشام) من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مُقلِّدًا معذورًا، ولم يفعله لحظ نفسه، وقد أحللت كل أحد مما بيني وبينه إلا من كان عدوًا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
واستمر به المرض حتى وافاه أجله في ليلة 22 من شهر ذي القعدة سنة 728هـ[6].
وقد نُعِي ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة على المنارات والأبراج، وفُجع الناس بهذا الخَطب الجَلل، وفُتِحت أبواب القلعة، وأتى الناس من كل حدب وصوب يزورونه ويقبِّلون رأسه وجبهته… .
وصُلِّي عليه أولًا بالقلعة، ثم بالجامع الأموي، فصُلِّي عليه بعد صلاة الظهر، وقد ازدحم الناس ازدحامًا شديدًا، وصُلِّي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة والبعيدة، حتى في اليمن والصين، وأخبر المسافرون بأنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه في يوم جمعة، وأُعلِن: (الصلاة على تُرجمان القرآن)[7].
من المحبوس؟
تأثر الشيخ تأثرًا شديدًا بما قرأه عن الإمام ابن تيمية، وعندما أعاد الكتاب إلى مكتبته وقعت عيناه على كتيب صغير بعنوان “رسائل من السجن” لابن تيمية، فبدأ يقلب صفحاته بشغف، فوجد فيه رسالة بعثها الإمام من سجن الإسكندرية إلى إخوانه يقول فيها: فإني – والله العظيم الذي لا إله إلا هو – في نِعم من الله ما رأيت مثلها في عمري كله. وقد فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن بالبال ولا يدور في الخيال. هذا ويعرف بعضها بالذوق من له نصيب من معرفة الله وتوحيده وحقائق الإيمان..
فإن اللذة والفرحة والسرور، وطيب الوقت، والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه، إنما في معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية، والمعارف القرآنية[8].
قرأ الشيخ هذه الكلمات وقال في نفسه: من كان المحبوس إذًا؟ ابن تيمية أم حُسَّاده؟
ماذا أقول للشاب؟
بعد أن فرغ الشيخ من قراءة سيرة الإمام ابن تيمية، وهدأت نفسه، وجفَّت دموعه، عاد مرة أخرى للتفكير في أمر الشاب الذي جاءه يطلب رأيه ونصيحته، فقال في نفسه: هل أقول له كما قلت لمِن قبله: اصبر واحتسب، وقابل الإساءة بالإحسان، واجتهِد في إساءة الظن بنفسك، وفتِّش عن عيوبك، وانشغل بإصلاحها؟! ولكن هذا يحتاج منه إلى قوة نفسية عظيمة، وبخاصة أن الطرف الآخر لن يتركه، بل من المتوقع أن يستمر في التصعيد ضدَّه، أم أقول له: اترك هذا المسجد واذهب إلى مسجد آخر، وتجنب الاحتكاك بهذا الشخص، واطو صفحته تمامًا؟! ولكننا بذلك نبني سدودًا، ولا نجفف المنابع، بمعنى أننا لا نحُل المشكلة من جذورها، بل نكتفي بعلاجها بالمُسكنات، بإبعاد كل طرف عن الآخر، وهذا ليس حلًّا يُفيد الأمة المُحطَّمة، والتي تنتظر من يأخذ بيدها للتغيير بإذن الله.
وارتفع صوت الشيخ قائلًا:
إن كان هذا هو حال بعض الدعاة وأهل العلم والعاملين للإسلام، فكيف يُرجى منهم أن يحملوا لواء التغيير، وهم لم ينجحوا فيه مع أنفسهم؟! لابد من مواجهة هذا المرض ومحاصرته، والقضاء عليه بإذن الله.
العلاج العام والخاص للحسد:
بدأ الشيخ في تدوين خواطره حول سبل العلاج لهذا المرض القلبي الخطير، وتذكر أن السبب الرئيس الذي جعل الأنصار يحبون إخوانهم المهاجرين، ولا يحسدونهم على فضل الله عليهم هو الإيمان كما أوردت الآية {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
وتذكر الشيخ قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد”[9].
فالعلاج العام الأكيد للتخلص من أمراض القلوب – ومنها الحسد – هو الزيادة الحقيقية للإيمان.
ومع هذا العلاج العام يأتي العلاج الخاص للحسد من خلال إفساح مساحة معتبرة في منظومة الدعوة والتربية للتنبيه إلى خطورته، وضرورة مقاومته، والقيام بالأعمال المضادة له.
وتذكر الشيخ وهو يدون خواطره حول علاج الحسد أنه قد قرأ بحثًا عن “الحسد بين الدعاة” للدكتور عبد الكريم زيدان[10]، وذلك في تعقيبه على قصة ابني آدم، فعاد إلى مكتبته وتناول الكتاب وأعاد قراءة البحث القيم والذي انتهى بوسائل عملية لعلاج الحسد عند الحاسد فأخذ يدونها، فكان مما تضمنته:
(ومن سُبل العلاج المهمة للحسد أن يقوم المسلم بالأعمال المضادة لموجبات الحسد التي يُزينها له الشيطان، فإذا فعل ذلك واستمر عليه شُفيَ إن شاء الله تعالى من داء الحسد. فمن هذه الأعمال المضادة: أن يدعو للمحسود، فإن كان حسده له بسبب نعمة المال، دعا الله له بأن يزيد ماله، وأن يوفقه للقيام بشكره كأن يقول: اللهم وسع رزقه، وزد ماله، ووفقه للقيام بشكر ما أنعمت عليه من مال، وأن تجعله وماله كما جاء في الحديث النبوي الشريف: “نِعم المال الصالح للرجل الصالح”[11].
وإن كان حسده لعلمه، فإنه يدعو له بزيادة العلم النافع، وبأن يوفقه إلى العمل بما علم، وينفع بعلمه المسلمين ويأجره عليه، بل عليه ألا يقف عند حد الدعاء، وإنما يقوم بالأعمال المضادة لموجبات الحسد، فإن حمله الحسد على ذمِّه وتحقيره وتنقيص قدره كلّف الحاسد لسانه المدح له، وإظهار مآثره وفضله، وإن حمله الحسد على التكبر عليه، كلَّف نفسه التواضع له، وإن حمله الحسد على قطع أسباب الخير والعون له كلَّف نفسه السعي في إيصال الخيرات إليه، فإذا عرف المحسود ذلك من الحاسد طاب قلبه وأحب الحاسد، وذلك يُفضي آخر الأمر إلى زوال الحسد من وجهين:
الأول: أن المحسود إذا أحب الحاسد فعل ما يحبه الحاسد، فحينئذ يصير الحاسد مُحبًّا للمحسود، ويزول الحسد حينئذ إن شاء الله.
الثاني: أن الحاسد إذا أتى بضد موجبات الحسد على وجه التكلف يصير ذلك فيما بعد طبعًا وسجية، فيزول الحسد عنه[12].
ضرورة إفراد مساحة معتبرة في برامج التربية لأمراض القلوب:
وبعد أن فرغ الشيخ من تدوين ما أفاض الله به عليه من أفكار حول موضوع الحسد، بدأت الخواطر تتزاحم على عقله حول أمراض القلوب وخطورتها على الدعاة وأهل العلم والعاملين للإسلام، وكيف أنها لا تأخذ المساحة الكافية من برامج التربية، وشعر بأهمية التركيز عليها واعتبارها من أولويات العمل الدعوي التربوي، وشعر كذلك بأن تقوية الإيمان – بشكل عام – له وظيفة كبيرة في الحد من هذه الأمراض وتقليل آثارها، وعزم الشيخ على تبني هذه القضية مع نفسه أولًا، ثم مع إخوانه العلماء والدعاة ثانيًا، وذلك بدوام زيارتهم وإشعارهم بخطورة هذه الأمراض على جيل الصحوة الإسلامية، وخطورتها كذلك على مستقبل الأمة، وعزم أيضًا على الاجتهاد في استنهاض هممهم حتى يبدأوا بأنفسهم – وهو معهم – لسلوك طريق العلاج، ثم الانطلاق بعد ذلك في دوائر عملهم الدعوي والتربوي ليأخذوا بأيدي إخوانهم إلى طريق العلاج الذي سلكوه مستعينين بالله ومتوكلين عليه.
… ارتاحت نفس الشيخ بعد أن وفقه الله عز وجل لهذا التصور، واستشعر ثقل المسئولية الملقاة على عاتقه، لكنه قال لنفسه: إلى متى سنظل نبكي على اللبن المسكوب؟! لابد من مواجهة هذا الخطر الداهم مهما كانت التضحيات… .
[1] للدكتور محمد السيد الوكيل رحمه الله. [2] استمرارية الدعوة لمحمد السيد الوكيل ص 42- دار المجتمع، جدة- نقلًا عن: “رجال الفكر والدعوة للندوي”. [3] المصدر السابق. [4] مذهب الاتحاد يقول أن الله وجميع مخلوقاته شيء واحد، فهم على هذا يعبدون كل شيء، ويستحلون كل شيء، وأما مذهب الحلول فأهله يرون أن الله حلَّ في كل من مخلوقاته. [5] رأى ابن تيمية أن الحلف بالطلاق قد شاع بين الناس، وهم لم يقصدوا به الطلاق، وإنما كان مجرد يمين يقصد به التأكيد، لأن الطلاق لا يقع إلا إذا نوى الحالف الطلاق، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227]. [6] كان آخر ما قرأه – رحمه الله – من القرآن قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55]. [7] استمرارية الدعوة، نقلًا عن رجال الفكر والدعوة. [8] رسائل من السجن لابن تيمية ص 32، 33 – دار الأرقم – الكويت. [9] حسن: أخرجه النسائي (6/12 ، رقم 3109) ، والحاكم (2/82 ، رقم 2394) وقال : صحيح على شرط مسلم . [10] هذا البحث ضمن كتاب المستفاد من قصص القرآن للدكتور عبد الكريم زيدان. [11] صحيح: أخرجه أحمد برقم (17309)، وابن حبان برقم (3210). [12] المستفاد من قصص القرآن لعبد الكريم زيدان (1/128) مؤسسة الرسالة، نقلًا عن تفسير الرازي.