بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيام الصحابة ببيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة للمسلمين، صعد أبو بكر المنبر وخطب في الناس وكان مما قال لهم: “لقد وليت عليكم ولست بخيركم” مع أنه رضي الله عنه بنص الأحاديث خير الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه استصغار النفس الذي جعله يتواضع لجميع الخلق لدرجة أنه كان يقوم بحلب الأغنام لجيرانه، فلما تولى الخلافة سمع بعض النسوة في الحي الذي كان يسكن فيه يقلن: الآن لا تحلب لنا منايح دارنا. فقال: بل لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خُلُق كنت عليه. واستمر يحلب لهم وهو خليفة، ولم يتعلل بضيق وقته وكثرة أعبائه، ولم يرسل لهم من يقوم بذلك عنه؛ لأنه يعلم بأن التواضع وإن كان حالة قلبية يستشعر من خلالها المرء ضآلة حجمه وأنه لا شيء بدون الله إلا أن هذا الشعور وحده لا يكفي في تشييد بنيان التواضع في القلب؛ بل لابد من ترجمة هذا الشعور في أرض الواقع بالقيام بأعمال تعكس حقيقته، وهذا ما رآه وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يقل صلى الله عليه وسلم: “إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد” ؟ [رواه مسلم]
وإن تعجب أخي القارئ فاعجب من هذا الموقف الذي يحمل الكثير والكثير من الدلالات التربوية، فبعد أن علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنزول رستم وجيش الفرس بالقادسية، وأن المعركة بينه وبين الجيش الإسلامي بقيادة سعد بن أبي وقاص قد نشبت، كان رضي الله عنه متشوقا ليعرف أخبار المعركة، فكان يخرج بنفسه كل يوم إلى مشارف المدينة على طريق العراق ينتظر البشير، وفي ذات يوم رأى رجلا يسير على ناقته متوجها إلى المدينة، وعرف منه أنه قادم من العراق، فسأله عن أخبار المعركة فقال الرجل لعمر: هزم الله العدو. كل ذلك يحدث والرجل يتحرك بناقته وعمر يمشي وراءه حتى دخلا المدينة فإذا الناس يسلمون عليه “يا أمير المؤمنين” فاندهش الرجل وقال لعمر: فهلا أخبرتني يرحمك الله أنك أمير المؤمنين؟ فرد عليه عمر: لا عليك يا أخي!
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يُرى راكبا بغلة وخلفه عليها خادمه وهو خليفة، ورئي كذلك نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد.
وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه أميرا بالمدائن ومر برجل من عظمائها قد اشترى شيئا فحسب سلمان حمالا، فقال: تعال فاحمل هذا. فحمله سلمان، فجعل يتلقاه الناس ويقولون: أصلح الله الأمير نحن نحمل عنك. فأبى أن يدفع إليهم، فقال الرجل في نفسه: ويحك إني لم أُسَخِّر إلا الأمير. فجعل يعتذر إليه ويقول: لم أعرفك أصلحك الله. فقال: انطلق. فذهب به إلى منزله.
والأخبار في هذا الباب كثيرة، ومما يدعو للأسف أن البعض منا عندما تبلغه مثل هذه الروايات فإنه يتلقاها على سبيل الوعظ، ولا يتلقاها على سبيل التشبه والمحاكاة؛ معللا ذلك بأن الزمان قد تغير، والأحوال قد تبدلت، وأن القيام بمثل هذه الأعمال ينقص من شأن صاحبه أمام الناس.
نعم، أخي القارئ إن الزمان قد تغير، ولكن الله سبحانه وتعالى لم يتغير، فهو ربنا ورب الأولين والآخرين، وهو الذين خلقنا لنكون عبيدا له، وهو الذي طالبنا بجهاد أنفسنا على لزوم طريق العبودية واستصغار النفس “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” [الذاريات: 56]
فإن قمنا بواجبات العبودية، وارتدينا رداءها، أكرمنا سبحانه بخيرَي الدنيا والآخرة، وإن لم نفعل فلا نلومن إلا أنفسنا إن طال بنا الزمان ولم نحقق ما نرنو لتحقيقه.
ولعل الحوار الذي دار بين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما قبل دخول عمر بيت المقدس ما يؤكد المعنى الذي يسعى هذا المقال لإبرازه؛ فقبل أن يصل عمر إلى بيت المقدس عرضت له مخاضة (ماء راكد) ، فنزل عن بعيره، ونزع خفيه فأمسكهما بيده، فخاض الماء ومعه بعير، فقال أبو عبيدة: قد صنعتَ اليوم صنيعا عظيما عند أهل الأرض؛ صنعت كذا وكذا. فصك عمر في صدره وقال: أوَّه، لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة في غيره يذلكم الله.