الكاتب: حسن البنا
قال تعالى “اللهُ نَزَلَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ” [الزمر : 23]
كان القرآن في أمةٍ خلت ـ عند سلفنا الصالحين ـ ربيع قلوبهم، وقرة أعينهم، وحياة أرواحهم، ومشكاة صدورهم، وطيب أفواههم، وشهوة ألسنتهم، وغذاء قلوبهم وأفكارهم، يقرءونه بالعشي والإصباح، يتلونه بالليل والنهار، وهم حين يقرءون يفهمون، وحين يفهمون يعملون، وحين يعملون يخلصون، فيكشف الله عن قلوبهم الحُجُب، ويفك عن أفئدتهم الأقفال والأغلال، فيدركون ما يريد القرآن الكريم منهم، ويتوجهون إلى ما وجههم إليه، وما هو إلا سعادة الدنيا ونعيم الآخرة “اللهُ نَزَلَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ”. [الزمر : 23]
ثم جاء من بعد أولئك أمم ـ هذه الأعصار ـ فوقفوا من القرآن موقفًا غريبًا، وسلكوا به مسلكًا عجيبًا، وكان حظهم منه ألفاظًا تُردَّد، ونغمات تُنَوَّع، وألحانًا تُسمع، وأوقاتًا تُقضى في غير عظة ولا اعتبار، إنهم يقرءون القرآن كثيرًا، ويستمعون إليه كثيرًا، ويتلونه في كل مناسبة، ويُعِمِّرون به بيوتهم، ويزينون به حَفْلهم، ويحفظونه في صدورهم، ويحملون المصاحف في جيوبهم، كل ذلك مستفيض فيهم لم يقصروا فيه، ولم يغفلوا عنه، ولكن ما بالهم لا يسيرون كما يُسيِّرُهم القرآن، ولا يتوجهون إلى ما يوجههم إليه، ولا يعملون بأمره ونهيه، ولا يميزون بين تحليله وتحريمه، ولا يتأثرون بزجره ووعظه، ولا يقيمون وزنًا لحدوده وأحكامه، وكأنه لغيرهم نزل، وكأن سواهم كلف فقهه وحمايته، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟