الكاتب: سيد قطب
هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة. هو روحها و باعثها. و هو قوامها وكيانها. و هو حارسها و راعيها. و هو بيانها و ترجمانها. و هو دستورها ومنهجها. و هو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة – كما يستمد منه الدعاة – وسائل العمل ، و مناهج الحركة ، و زاد الطريق..
و لكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حِسِّنا ، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية ، ذات وجود حقيقي ; ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة ; ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض ; وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك. معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات.
وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن ، طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة ، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان ، والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين ! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسًا و وقائع و أحداثًا حية ، ذات كينونة واقعية حية ; و وجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع و الأحداث توجيهًا واقعيًا حيًا ، نشأ عنه وجود ، ذو خصائص في حياة “الإنسان” بصفة عامة ، و في حياة الأمة المسلمة بوجه خاص.
ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة ، في فترة من فترات التاريخ محددة ، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها ، و لكنه – مع هذا – يعايش و يواجه و يملك أن يوجه الحياة الحاضرة ، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية ، و في صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها ، و في معركتها كذلك في داخل النفس ، و في عالم الضمير ، بنفس الحيوية ، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك.
ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة ، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة ، و نتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل.. ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة.. كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة ، و تواجه الأحداث في المدينة و في الجزيرة العربية كلها ; و تتعامل مع أعدائها و أصدقائها ; و تتصارع مع شهواتها و أهوائها ; و يتنزل القرآن حينئذ ليواجه هذا كله ، و يوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة: مع نفسها التي بين جنبيها ، و مع أعدائها المتربصين بها في المدينة و في مكة و فيما حولهما.. و فيما وراءهما كذلك..
أجل.. يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى ; و نتمثلها في بشريتها الحقيقية ، و في حياتها الواقعية ، و في مشكلاتها الإنسانية ; و نتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية و في أهدافها الكلية على السواء ; و نرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة. وهي تعثر و تنهض. و تحيد و تستقيم. و تضعف و تقاوم. و تتألم و تحتمل. و ترقى الدرج الصاعد في بطء و مشقة ، وفي صبر و مجاهدة ، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان ، و كل ضعف الإنسان ، و كل طاقات الإنسان.
و من ثم نشعر أننا نحن أيضًا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى. و أن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها ، تملك الاستجابة للقرآن ، و الانتفاع بقيادته في ذات الطريق.
إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيًا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى ; ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضًا. وسنحس أنه معنا اليوم و غدًا. و أنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهومة بعيدة عن واقعنا المحدد ، كما أنه ليس تاريخًا مضى و انقضى و بطلت فاعليته و تفاعله مع الحياة البشرية.
المصدر: مقدمة سورة آل عمران