لو أن ريحًا شديدة، وموجة عاتية قد ضربت
سفينة من السفن في ظلام الليل، وبدأت على إثرها تلك السفينة في التأرجح على سطح البحر .. ماذا سيفعل ركابها؟!
بلا شك أنهم جميعًا سيستشعرون الخطر المحدق بهم، ويتوجهون إلى الله بالدعاء والاستغاثة ليصرف عنهم هذه الغُمة، لكنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أن السفينة قوية ومحصنة، وستقاوم الرياح والأمواج، فإذا ما انكسرت السفينة، وتعلق كل واحد منهم بخشبة في عرض البحر فإنَّ استغاثتهم بالله ستزداد، ومع ذلك يظل وجود الخشبة يجعلهم يأملون أنها قد تحفظ حياتهم لبعض الوقت مما قد يتيح الفرصة لفِرق الإنقاذ أن تصل إليهم، فإذا ما اشتدت الأمواج وأبعدت عن كلٍ منهم خشبته التي يتعلق بها، فماذا تظن أن تكون قوة استغاثتهم بالله؟!
ألا توافقني أنها ستكون أشد وأخلص وأصدق من ذي قبل .. استغاثة حارة من أعماق أعماق قلوبهم؟!
وهذا هو المطلوب من الجميع الآن .. أن نتجه إلى الله ونستغيث به كأشد ما تكون الاستغاثة، فلا سفينة تحملنا، ولا خشبة نتعلق بها..
لقد أغُلقت الأبواب الأرضية في وجوهنا، وانقطعت الأسباب، وأصبحنا في العراء، فماذا نحن فاعلون؟!
ألم يأن لنا أن نولي وجوهنا شطر ربنا، ونتجه إليه بقلوبنا، ونستغيث به استغاثة المشرف على الغرق؟!
إن الأوضاع التي نمر بها الآن تتشابه إلى حد كبير مع ما حدث مع المسلمين الأوائل في الأحزاب فلقد أراد مشركو مكة ومن تحالف معهم من قبائل العرب أن يستأصلوا شأفة الإسلام، ويقضوا على الدولة الإسلامية الوليدة بالمدينة المنورة، فخرجوا بجيش ضخم يبلغ قرابة العشرة آلاف مقاتل، وحاصروا المدينة حصارًا شديدًا، واشتد الأمر على المسلمين، وطال الحصار دون أن يحقق جيش الكفر هدفه، فالخندق الذي حفره المسلمون يحمي الجهة الشمالية للمدينة، والجبال تحيط بالجهتين الشرقية والغربية، ويهود بني قريظة – المتحالفون مع المسلمين – في الجهة الجنوبية..
وفي أثناء ذلك الحصار طمع يهود بني قريظة في النصر الشامل على المسلمين، فتحالفوا مع المشركين، وانتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبادر إلى التحقق منه، فأرسل سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة، وخوَّات بن جبير، وقال: انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًا فالحنوا إلى لحنًا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس.
فلما دنوا منهم، وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد، فانصرفوا عنهم.
فلما أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحنوا له، وقالوا: عضل وقارة، أي أنهم على غدر، كغدر عضل وقارة بأصحاب الرجيع.
يقول صاحب الرحيق المختوم:
وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر، فتجسد أمامهم خطر رهيب.
وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما يقول الله تعالى: [وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا] [الأحزاب: 10، 11].
فماذا كان رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الخبر؟!
يقول المباركفوري: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غدر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم نهض يقول: «الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره».
إجابة مفاجئة للجميع .. كيف يكون التبشير بالنصر في ظل هذا الموقف العصيب؟!
أتدري لماذا كانت هذه الإجابة؟!
لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنه طالما كانت الأبواب الأرضية مفتوحة أمام الناس، فإنها قد تكون سببًا في إضعاف التوكل على الله والاستنصار المطلق به، فإذا ما أغلقت جميع الأبواب، واستنفدت جميع الأسباب، لم يكن أمام القلوب المؤمنة إلا أن تتجه بكليتها إلى الباب الأعظم.. الباب الذي لا يغلق .. باب القادر المقتدر، فتنطرح أمامه موقنة بأنه وحده الذي سينجيها، ويكفيها، وينصرها، فيحدث – تبعًا لذلك – الزلزال الذي يهدم أي تصور عن إمكانية إحراز النصر من خلال باب آخر .. عند ذلك تنفتح أبواب السماء، ويأتي الفرج من حيث لا يحتسب أحد .. ويكفيك في هذا قوله تعالى: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا][يوسف: 110].
فعندما يتم اليأس التام والمطلق من الأسباب في كونها تستطيع بذاتها أن تجلب لنا النفع أو تدفع عنا الضر، عندئذ يأتي الفرج والنصر والمدد.