وَعَدَ الله عز وجل عباده بوعود في الدنيا وفي الآخرة، ولقد أخبرنا سبحانه وتعالي عن كثير من وعوده التي تحققت كاملة وتامة في الأزمان السابقة حتي يزداد يقيننا وإيماننا بتحقق وعده سبحانه بالتمكين لعباده المؤمنين، فتمتلئ قلوبنا بالسكينة والطمأنينة حتي وإن رأينا من الأحداث ما لا يتناسب مع هذا الوعد، وحتى يزداد تشميرنا وسعينا في أداء الواجب المطلوب منا (وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) {هود:121،122}.
ومن الوعود التي وعدها الله عز وجل وتحققت بشكل مذهل، ذلك الوعد الذي وعده سبحانه لأم موسي بعد ولادته(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) {القصص:7}.
..لو تصورنا المشهد في ذلك الوقت لوجدنا أن عودة موسي عليه السلام إلي أمه ضربٌ من ضروب المستحيل، ففرعون أطلق جنوده ليبحثوا عن كل طفل يولد من بني إسرائيل حتى يذبحوه، وأم موسي وضعت الرضبع في صندوق وألقته في النيل، والمتوقع أن يواجه الطفل أحد مصيرين
،فإما أن يعثر عليه جنود فرعون فتكون نهايته، وإما أن يموت جوعًا وعطشًا أو غرقا..
مشهد مفزع، ولكن الأمر عند الله عز وجل ليس كذلك، فهو سبحانه يملك كل شيئ في هذا الكون، وهو الذي يحركه ويدبره، فما من ذرة في هذا الوجود إلا وتتحرك بأمر الله وقدرته(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر) {الأعراف:54}.
لا يملك تدبير الأمر أحد سواه، ولا يملك التقديم والتأخير، أو الخفض أو الرفع، أو القبض أو البسط أحد غيره..ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) {يس:82،83}.
فمن خلال اليقين بهذه الحقائق لا ينبغي علينا أن نعجب إن رأينا وعده سبحانه لأم موسي بعودة ابنها يتحقق.
لقد تم ذلك بالفعل من خلال سلسلة عجيبة من الأحداث سخر الله خلالها بعض مخلوقاته، ومنها فرعون نفسه، ليقوم كل منها بوظيفة محدة في زمن محدد لينتهي الأمر بالنهاية السعيدة التي قدرها سبحانه ووعد بها أم موسي عليه السلام.
بداية الأحداث
تبدأ الأحداث- التي يحركها الله عز وجل- بأن تجد زوجة فرعون في نفسها الرغبة في السباحة في وقت ما، فتذهب وتسبح في مكان معين من نهر النيل الكبير، وفي نفس الوقت يتحرك الصندوق الذي يحمل الرضيع- موسي- بأمر الله وقدرته في اتجاه محدد قدَّره له ربه ليلتقي بزوجة فرعون، فتجد في نفسها رغبة في معرفة ما بداخله، فتجده طفلًا رضيعًا، وقد كانت_ حسب تقدير الله وعلمه المحيط- عقيمًا، وذلك ليزداد سرورها وفرحها بهذا الطفل ومن ثمَّ إلحاحها في بقائه معها في قصر فرعون:(وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) {القصص:9}.
..خلال هذا الوقت كانت أم موسي فزعة، تفكر في وليدها وتريد أن تتكلم وتحكي ما حدث لمن حولها، لعلهم يشيرون عليها بشئ يعيد عليها إيمانها كي لا يتزعزع(وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) {القصص:10}.
المقتدر يُحرّم المراضع:
بعد أن حُمل الصندوق إلي القصر، بدأ الرضيع في البكاء -بأمر الله- فتذكّر القوم ضرورة إرضاعه…فيتم استدعاء مُرضعة فإذا بالرضيع يرفض الرضاعة منها، فتحاول مرارًا ومرارًا ولكنه يرفض بأمر الله المقتدر، فيتم استدعاء مرضعة أخري فيحدث لها ما حدث للأولي، فيتم استدعاء ثالثة ورابعة، وفم موسي-عليه السلام- يأبي عليهن، حتي تم استدعاء جميع مرضعات المدينة دون جدوي، ولا غرابة في ذلك فالأمر الإلهي لابد أن يتقدم بعدم قبول موسي لأي منهن(وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) {القصص:12}.
في هذه الأثناء يُلهم الله عز وجل أم موسي بأن ترسل أخته لتتحسس أمر الصندوق، وإلي أين وصل، وما هو مصير أخيها(وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) {القصص:11}.
كان من الممكن أن يري القوم أخت موسي وهي ترقبهم فيتم القيض عليها وينتهي الأمر، ولكن كيف لهم أن يروها بأبصارهم، وتلك الأبصار لا تتحرك ولا تري إلا بأمر الله وقدرته؟!
..تشتد حيرة أهل القصر في أمر الرضيع، فبكاؤه يشتد، وفمه يأبي الرضاعة من كل مرضعات المدينة..كل هذا تشاهده أخت موسي، ليطلق الله لسانها في الوقت المناسب لتقترح عليهم مرضعة جديدة لا يعرفونها (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ) {طه:40}.
فيقبل الجميع العرض، ويسارعون بالذهاب إلي أم موسي فتنطلق معهم وقلبها يكاد يطير من اللهفة والفرح، وتصل إلي القصر وتقترب من وليدها وأبصار الجميع ترقبها وتبدأ في إرضاعه فيستجيب فم موسي بأمر الله إليها وتهدأ ثائرته ويسكن بكاؤه فيهلل الجميع فرحا وسرورا ويحتفون بأم موسي احتفاءً شديدا ويوكلون إليها أمر إرضاع موسي وتربيته لتأخذه إلي بيتها وهي محملة بالهدايا والعطايا والالبسة الفاخرة والاموال والاطعمة(فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) {القصص:13}.
..نعم أخي القارئ هذا هو ربك الذي اذا وعد أوفي فعندما وعد أم موسي بأنه سيرده إليها كان الوفاء بالوعد وبشكل لا يمكن أن يخطر ببالها لذلك نجد الخطاب القرآني يقول:(فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ) ..ولم يقل: الأحداث بهذا الشكل العجيب ومن ثم فهو الذي أعاد موسي الي أمه.
وما الصندوق وما النيل وما امرأة فرعون وما المرضعات وما مشاهد القصة كلها الا جنود لله يتحركون بأمره وينفذون مشيئته.