من طبيعة الإنسان أن فيه إقبالًا وإدبارًا، وهمة وفتورًا، ففي وقت نشاطه وهمته تجده يريد إنجاز كل شيء في أقصر وقت، وفى وقت فتوره وإدباره تراه متثاقلًا عن القيام بالكثير من الأعمال التي كان يقوم بها قبل ذلك بسهولة ويسر.
.. من هنا تشتد الحاجة إلى وسيلة تنهض بالهمم، وتعين الواحد منا دومًا على الاستمرار في القيام بالوسائل السابقة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن النسيان من طبع الإنسان، ولكم سمعنا وقرأنا من نصائح وتوجيهات، كان لها أبلغ الأثر في نفوسنا، وعزمنا وقتها على القيام بمقتضياتها من أعمال، وبمرور الوقت ضعفت الهمة، ونسى التوجيه..
فما العمل لتلافي هذه العقبات ونحن نسير في طريق إزالة أصنامنا؟!
الحل العملي هو حسن تطبيق قوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [ الكهف: 28 ].
الآية المباركة تدلنا على أهمية حبس النفس في طاعة الله من خلال الوجود في بيئة طيبة، وصحبة صالحة يتم فيها التعاهد ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾.
لابد إذن لكل من يريد الاستمرار في جهاد نفسه أن يتواجد في محضن تربوي وصحبة صالحة، يتربى فيهما على المعاني السابقة وغيرها.
التربية هي عمل الرسل واتباعهم:
إن قضية تغيير ما بالنفس ووضعها في قالبها الصحيح لمن أهم الأمور التي ينبغي أن يبذل فيها الجهد، وهي لن تتم بالمحاضرات والكتب فقط، ولكن بدوام التوجيه والتعاهد والتربية، لذلك نجد أن من مهام الرسل تزكية نفوس أتباعهم ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [ الجمعة: 2 ].
… وهذا ما فعله رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يكتفي بتعليم أصحابه بل بتربيتهم وتعاهدهم كذلك… انظر إليه صلى الله عليه وسلم وكيف كان غضبه من أبي ذر عندما عير بلالًا بسواده، وتأمل كيف كان قدوة لأصحابه في التواضع.. فقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ونحو هذا[1].
وفى غزوة أحد أنه صلى الله عليه وسلم رأى أبا دجانة يتبختر بين الصفين. فقال: ” إنها مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن”[2].
مواقف تربوية:
وجاء من بعده صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم، وقد شربوا مشربه، وتعلموا طريقته، فقد عاشوا في ذلك الجو التربوي الفريد، واستنشقوا هواءه، فكان كل واحد منهم يحرص على أخيه ويفعل ما فيه فلاحه، انظر إلى عمر بن الخطاب ومدى خوفه الشديد على خالد بن الوليد وفتوحاته المستمرة وافتتان الناس به، فكان قرار عزله من إمارة الجيش حرصًا عليه.
واستأذنه تميم الداري أن يقص على الناس فأبى، وقال: إنه الذبح.
ولقد أتى أبو أمامة على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده ويدعو ربه، فقال له: أنت أنت لو كان هذا في بيتك[3].
وهذا ابن المبارك يسأله بعض إخوانه ذات ليلة وكانوا على ثغر من ثغور القتال يتذاكرون في مسائل العلم: أترى يا ابا عبد الرحمن أن في أعمال البر ما هو أرضى لله تعالى مما نحن فيه؟ قال: نعم.. رجل يسعى على عياله، قام من جوف الليل، يتفقد حال صبيته، ويطمئن إلى راحتهم وأغطيتهم.
فلابد إذن لمن ينشد الصلاح لنفسه أن يحيطها بجو تربوي من خلال صحبة صالحة من النصحاء الذين يوجهونه وينصحونه ويتعاهدونه.
دور المحاضن التربوية في العلاج:
مما سبق يتبين لنا أهمية الجو والمحضن التربوي للفرد ليتم فيه تربيته وتكوينه تكوينًا متكاملًا.
… فيتربى من خلالها على التواضع، واستصغار النفس، واستقلال ما يقدمه من أعمال.
وفيها يتعلم كيف يغلق الأبواب أمام إلحاح نفسه عليه كي يحمدها أو يستعظمها.
ومن خلالها يتعلم كيفية الانتفاع بالقرآن، واستخدامه كعلاج لتضخم الذات.
وفى فترة التكوين يكون الاهتمام الشديد بالتربية الإيمانية مع التزكية جنبًا إلى جنب، وهذا يستلزم الهدوء وإعطاء هذه الفترة الفرصة الكافية ليكون النتاج صالحًا ﴿ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ ﴾ [ الفتح: 29 ].
فلا تصدر أو تقدم للأمام قبل الأوان، كما قال الشافعى: إذا تصدر الفتى فاته علم كثير.
وجود الأكفاء وتوظيف الإمكانات:
وفى المحاضن التربوية يجد المرء حوله من هم أحسن منه كفاءة وعلمًا، فلا يرى نفسه صاحب الموهبة الفذة، وأنه لم تلد النساء مثله.
وفيها يكون الزاد الإيماني الذي يولد الرغبة و يستثير الهمة للقيام بتنفيذ وسائل التزكية، واستصغار النفس.
ومن خلالها يضبط الفهم الصحيح، فيعطي كل ذي حق حقه، ويتعلم كيف يرتب ألوياته، فلا يكفي للعاقل أن يعلم الخير من الشر، بل لابد أن يتعلم خير الخيرين وشر الشرين[4].
وفى المحاضن التربوية: يتم توظيف الإمكانات لخدمة الدين مع مراعاة عدم التسبب في تضخيم أحد عند نفسه، وذلك من خلال عدم تعريض الأشخاص للأضواء قبل أن يتم تكوينهم تكوينًا متكاملًا يركز على الإيمان العميق الذي يُحيي القلوب، وكذلك تزكية النفوس وتربيتها على لزوم الصدق والإخلاص ورؤية فضل الله في كل خير نفعله.
… ومن خلالها تتبدل المواقع كل فترة ليتعود الفرد على العطاء دون نظر لمنصب أو مكانة كما قال صلى الله عليه وسلم: ” طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة… “[5].
فلنبحث عن تلك الصحبة الصالحة والمحاضن التربوية لتكون نعم العون على إخلاص العمل لله عز وجل.
[1] أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/241 رقم 26090) وقال: شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح. [2] أخرجه الطبراني (7/104، رقم 6508)، وأورده المباركفوري في الرحيق المختوم ص 301. [3] الزهد لابن المبارك ص 50. [4] مجموع الفتاوى 20/54. [5] رواه البخاري (3/1057، رقم 2730) .