تزكية النفس

من صور التواضع

كما قلنا سابقًا أن: تواضع العبد في علاقته مع ربه، ومعاملته له تنطلق من رؤيته لحقيقته وأصله، وأنه مخلوق عاجز، ضعيف، جاهل.. أصله هو التراب والماء المهين.

وتنطلق معاملة العبد لربه كذلك من استشعاره لعظمته – سبحانه – وجلاله وكماله، وعظيم فضله عليه، وأنه لا غنى له عنه طرفة عين.

وهذه الحالة القلبية ينبغي أن يترجمها العبد في صورة تذلل ومسكنة وخضوع لله عز وجل، وإظهار عظيم افتقاره وحاجته إليه، وأنه مهما أوتي من أشكال الصحة والقوة والجمال والجاه والمال فهو كما هو، عبد ذليل لرب جليل، وأن هذه الأشياء لم تغير من حقيقته شيئًا.

التواضع عند الرِفعة:

إذن فعندما نبتلى بمنصب أو جاه بين الناس علينا أن نكثر من أعمال التواضع، لأن النفس في هذه الحالة تريد أن تشمخ وتخلع جلباب العبودية، وتلبس لباس التيه والفخر، وبالمبالغة في التواضع تعود إلى أصلها.

انظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد استمر في حلب الأغنام لجيرانه بعد توليه الخلافة، ويقول لهم بعد أن ظنوا أنه لن يستمر في ذلك: بل لعمري لأحلبها لكم، وإني لأجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه خلق كنت عليه، فاستمر يحلب لهم[1].

ولما بعث عمر أبا هريرة أميرًا للبحرين دخلها وهو راكب على حمار، وجعل يقول: طرقوا للأمير، طرقوا للأمير[2].

ورئي عثمان بن عفان على بغلة، وخلفه عليها غلامه نائل وهو خليفة، ورئي كذلك نائمًا في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين[3].

قال أيوب السختياني: ينبغي للعالم أن يضع الرماد على رأسه تواضعًا لله عز وجل[4].

ويحكي ابن الحاج في المدخل عن الشيخ الزيات – الذي كان من أكابر العلماء الصلحاء في وقته ببلاد المغرب – أنه كان إذا جلس إلى الدرس يجتمع له نحو من أربعمائة أو ستمائة من الفقهاء يحضرون إليه، فإذا فرغ من مجلسه قام ودخل بيته، وأخرج ما يحتاج إليه على رأٍسه أو في يده من قمح أو عجين يخبزه، أو شراء خضرة أو حاجة من السوق، أو حصاد لزرعه بيده، أوغسل ثياب إلى غير ذلك من الحوائج[5].

التواضع عند ورود النعم:

ومن المواضع التي يتأكد عندها التواضع لله عز وجل: ورود النعم.

قال كعب: ما أنعم الله على عبد من نعمة من الدنيا فشكرها لله، وتواضع بها لله، إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا، ورفع له بها درجة في الآخرة، وما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها لله، ولم يتواضع بها لله، إلا منعه الله نفعها في الدنيا، وفتح له طبقًا من النار يعذبه إن شاء، أو يتجاوز عنه[6].

ومن صور التواضع لله: كثرة السجود:

من أجَل صور التواضع لله: السجود، فمن خلاله يكون العبد في وضع يظهره بمظهر الذليل، المنكسر، المستكين، وهذا ما يريده الله عز وجل منه، من هنا يتبين لنا قوله صلى الله عليه وسلم: ” أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء”[7].

فلنكثر من السجود، ولنظهر فيه انكسارنا واستكانتنا وخضوعنا لمولانا.

قال طاووس: دخل علي بن الحسين الحجر ليلة فصلى، فسمعته يقول في سجوده: عُبَيدك بفنائك، ومسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك[8].

إظهار المسكنة في الدعاء:

إظهار المسكنة في الدعاء صورة من صور تواضع العبد لربه.. أخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين.

وفى حديثه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دعائه عشية عرفه: ” أنا البائس الفقير، المستغيث، المستجير، الوجل، المشفق، المقر، المعترف بذنبه، أسالك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل جسده، ورغم لك أنفه “.

التواضع عند الشدة والكرب:

قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [المؤمنون: 76].

فذم – سبحانه – من لا يستكين لربه عند الشدة.

فمع ضرورة استكانة قلب المؤمن لربه وخشوعه له وإظهاره الفقر والمسكنة إليه في كل أحواله، إلا أن هذه الحالة ينبغي أن تتأكد عند الشدة والكرب.

فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يخرج عند الاستسقاء متواضعًا، متخشعًا متمسكنًا متبذلًا[9].

وحبس لمطرف بن عبد الله قريب له، فلبس خلقان ثيابه، وأخذ بيده قصبة وقال: أتمسكن لربي لعله يشفعني فيه[10].

مع النفس:

حقيقة التواضع مع النفس هو استصغار المرء لها، ورؤيتها بعين النقص، كحال موسى – عليه السلام – عندما استصغر نفسه، واستكثر أن يتحمل الرسالة بمفرده ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾ [ القصص: 34 ] مع أن الواقع يدل على أنه – عليه السلام – قد قام بها على خير وجه.

وهذا إبراهيم – عليه السلام – يقول في دعائه: ﴿ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [ الشعراء: 82 ] قال الشوكاني: وإنما قال عليه السلام ذلك هضمًا لنفسه[11].

وتأمل ما قاله يوسف – عليه السلام- في مناجاته لربه: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [ يوسف: 101 ]، وكانت أحب كلمة تقال لعيسى عليه السلام: كان هذا المسكين[12].

وكذلك كان رسولنًا صلى الله عليه وسلم، يقول القاضي عياض: وحسبك أنه خُيِّر بين أن يكون نبيًا ملكًا أونبيًا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًا عبدًا، فقال له إسرافيل عند ذلك: فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق الأرض عنه، وأول شافع[13].

ومن صور تواضعه مع نفسه قوله صلى الله عليه وسلم: ” رحم الله أخي يوسف لو أنا أتاني الرسول بعد طول الحبس لأسرعت الإجابة حين قال: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ﴾[14] [يوسف : 50].

ولقد جئ إليه صلى الله عليه وسلم يومًا بطعام، فقالت له عائشة رضي الله عنها: لو أكلت يا نبي الله وأنت متكئ كان أهون عليك، فأصغى بجبهته حتى كاد يمس الأرض بها وقال: ” بل آكل كما يأكل العبد، وأنا جالس كما يجلس العبد، وإنما أناعبد “[15].

ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة، فقال له: ” هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد “[16].

ضع نفسك:

من أهم صور التواضع المرء عند نفسه: عدم تقديم نفسه للقيام بعمل ما، وكذلك رؤيته أنه ليس أهلًا للعمل الذي يتم ترشيحه له: كطلب الدعاء منه، أو تقديمه للإمامة في الصلاة، أو التحدث أمام الناس.

فهذا أبو بكر الصديق يقول في أول خطبة له بعد توليه الخلافة: قد وليت عليكم ولست بخيركم.. مع أنه خير الناس جميعًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه استصغار النفس.

وهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقال له: يا أمير المؤمنين! لو أتيت المينة، فإن قضى الله موتًا دفنت موضع القبر الرابع، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، قال: والله لأن يعذبني الله بكل عذاب، إلا النار فإنه لا صبر لي عليها، أحب إلى من أن يعلم من قلبي أني أرى أني لذلك أهل[17].

وكان كثير من السلف يكره أن يُطلب منه الدعاء ويقول لمن يسأله: أي شيء أنا، وكتب رجل إلى الإمام أحمد يسأله فقال: إذا دعونا نحن لهذا فمن يدعو لنا[18].

يمشون على الأرض هونًا:

ومن أعمال تواضع المرء عند نفسه: عدم التبختر أو الخيلاء عند المشي، بل كما وصف الله عز وجل عباده: ﴿ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63 ].

ومنها كذلك عدم التشدق أو التقعر بالكلام.

ومنها الأكل على الأرض، وعدم الجلوس متكئًا كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومنها تقصير الثوب، وعدم جره خيلاء، ومنها لبس الدون من الثياب في بعض الأوقات، وقال صلى الله عليه وسلم: ” من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان يلبسها[19].

ولقد كان عبد الرحمن بن عوف لا يُعرف من بين عبيده[20]، أي من تواضعه في الزي.

وهنا أمر ينبغي الإشارة إليه فيما يخص اللباس:

فالكثير من الناس يحب أن يكون ملبسه حسنًا، وهيئته حسنة، وذلك بدافع فطري، وهذا أمر لا غبار عليه: قال صلى الله عليه وسلم: ” لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر “. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، قال: ” إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس”[21].

فالهيئة الحسنة تثير البهجة في نفس صاحبها، وتتوافق مع فطرته في حب المستحسنات، وهذا أمر محمود، أما المذموم فهو فعل ذلك مع الإعجاب بالنفس، والاختيال في المشي والشعور بالتميز بهذا الزي عن الآخرين. قال صلى الله عليه وسلم: ” بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مُرجّل رأسه، يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة”[22].

[1] سير السلف الصالحين للأصبهاني 1/83 – دار الراية – الرياض.

[2] تنبيه الغافلين ص 142.

[3] الزهد للإمام أحمد ص 127.

[4] أخلاق العلماء للآجري ص 64.

[5] المدخل لابن الحاج 2/ 319.

[6] الشكر لابن أبي الدنيا ص 72.

[7] صحيح، رواه أبو داود، وأورده الألباني في صحيح الجامع ح (1175).

[8] الجامع المنتخب من رسائل ابن رجب رسالة اختيار الأولى ص 99.

[9] أخرجه الترمذي عن ابن عباس وقال: حديث حسن صحيح.

[10] الجامع المنتخب من رسائل ابن رجب رسالة اختيار الأولى ص 98.

[11] فتح القدير.

[12] الزهد للإمام أحمد ص 94.

[13] الشفا للقاضي عياض 1/ 105.

[14] صحيح، أخرجه الإمام أحمد في الزهد وابن المنذر، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح ( 3491 ).

[15] أخرجه بن المبارك في الزهد ص 53 في زيادات نعيم بن حماد.

[16] صحيح، رواه ابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (7052).

[17] سيرة ومناقب عمر بن العزيز لابن الجوزي ص 227.

[18] شرح حديث ما ذئبان جائعان لابن رجب ص 69 – مؤسسة الريان – بيروت.

[19] حسن، رواه الترمذي والحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح ( 6145 ).

[20] التواضع والخمول لابن أبي الدنيا ص 170.

[21] رواه مسلم (1/93، رقم 91).

[22] أخرجه البخاري ومسلم.