مع المتدبرين

كتب ربكم على نفسه الرحمة

الكاتب: سيد قطب

{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]

إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضل: تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده.. تفضله – سبحانه – بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة.. مكتوبة عليه.. كتبها هو على نفسه؛ وجعلها عهدًا منه لعباده.. بمحض إرادته ومطلق مشيئته.. وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها؛ حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة..

كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه – سبحانه – على نفسه من رحمته. فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر، لا يقل عن ذلك التفضل الأول! فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى؟ وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله؟ من هم؟ إلا أنه الفضل العميم، الفائض من خلق الله الكريم؟!

إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش؛ كما يدعه في أنس وفي روْح لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه!

ومثل هذه الحقائق، وما تثيره في القلب من مشاعر؛ ليس موكولًا إلى التعبير البشري ليبلغ شيئًا في تصويره؛ وإن كان القلب البشري مهيأ لتذوقه، لا لتعريفه!

ورحمة الله تفيض على عباده جميعًا؛ وتسعهم جميعًا؛ وبها يقوم وجودهم، وتقوم حياتهم .

وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات. فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها؛ ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة :

إنها تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته، في نشأتهم من حيث لا يعلمون، وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم؛ بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين .

وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان، من قوى الكون وطاقاته. وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل. الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.

وتتجلى في تعليم الله للإنسان، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة؛ وتقدير التوافق بين استعدادته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته.. هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله، وهو الذي علمهم إياه! وهو من رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك.

وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى، كلما نسي وضل؛ وأخذه بالحلم كلما لجَّ في الضلال؛ ولم يسمع صوت النذير، ولم يصغ للتحذير، وهو على الله هين. ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله، وحلم الله وحده هو الذي يسعه.

وتتجلى في تجاوز الله – سبحانه – عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.

وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها. والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء، ومحو السيئة بالحسنة.. وكله من فضل الله، فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته حتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما قال عن نفسه، في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله .

والإقصار مِنَّا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها، وإعلان القصور والعيّ عنها، هو أجدر وأولى، وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئًا! وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن؛ فيتصل به؛ ويعرفه؛ ويطمئن إليه – سبحانه – ويأمن في كنفه؛ ويستروح في ظله.. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تملِّيها واستجلائها، فضلًا على وصفها والتعبير عنها.

إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه – حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار – فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة، وكل حالة، وكل وضع؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه، أو طرده من رحمته. فإن الله لا يطرد من رحمته أحدًا يرجوها. إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله ويرفضون رحمته ويبعدون عنها!

وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر، وبالرجاء والأمل، وبالهدوء والراحة.. فهو في كنف ودود، يستروح ظلاله، ما دام لا يُبعد عنه في الشرود!

والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله. فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرّىء على المعصية – كما يتوهم البعض – إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم.

والقلب الذي تجرئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقية! لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلم ما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم، أو المغفرة، أو الرحمة.. إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية!

كذلك فإن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يؤثر تأثيرًا قويًا في خلق المؤمن، وهو يعلم أنه مأمور أن يتخلق بأخلاق الله – سبحانه – وهو يرى نفسه مغمورًا برحمة الله مع تقصيره وذنبه وخطئه – فيعلمه ذلك كله كيف يرحم، وكيف يعفو، وكيف يغفر.. كما رأينا في تعليم الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه؛ مستمدًا تعليمه لهم من هذه الحقيقة الكبيرة. .

الأنعام: 13، بتصرف