إن العبد الصالح الذي يسعى إلى رضوان الله تعالى يقف عند حدوده حيثما كان، فهو لا يتقدم ولا يتأخر إلا بأمر من رب الأرض والسماء، فالحلال ما أحله الله ورضيه لنا، والحرام ما كرهه الله ويأباه لنا، وهذه هي العبودية الحقيقية التي تحكم سلوك الصالحين.
ولقد بشر الله عباده هؤلاء بجنة عرضها السماوات والأرض فقال لهم: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32، 33].
فمن صفاتهم الطيبة أنهم يقفون عند حدود الله ويحفظون أوامره ونواهيه ويعظمون حقوقه عليهم.
وصفة الحفظ لحدود الله هي أعظم صفات الصادقين في عبادة ربهم، لذا تكرر لفظ الحفظ وما وافق معناه في كتاب الله تعالى كثيرًا، فمن مثل ذلك قول الكريم: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9]، ويأمرنا عز وجل {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]، ولا ريب أن حفظ اللسان والفرج والبطن والسمع والبصر، كل ذلك من عوامل النجاة {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
ويصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه الغلام الصغير عبد الله بن عباس، ويريد أن يعلمه حقائق يجب أن تُحفظ فلا تُنسى، فيقول له: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف»[1].
فمن يتأمل هذا الحديث العظيم يجد حقائق تحتاج لأن يذكرها العاقل كل صباح، ذلك لأنها تسيطر بشكل مباشر على دوافعه، وكيفية تعامله مع أحداث الحياة، ولعله مما يلفت الانتباه إلى جماليات الحديث الشريف البدء بكلمة «غلام»، فلعله صلى الله عليه وسلم أراد للكلمات أن تُحفظ، وأن يُربى عليها الصغير والكبير، كي تكون مبادئ تسيطر على كيان الشخصية الإسلامية.
نِعم الله
والحافظون لحدود الله يتمتعون بثمرة عملهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فالمنعم سبحانه وتعالى يحفظ عليهم نعمه من عافية البدن، وبركة في الولد، وسداد في الحواس، وغير ذلك، فاسمع في سورة النساء إلى حديث القرآن الكريم عن الأيتام وضرورة أن يتكفلهم المجتمع وأن يحافظ عليهم، ثم يذكر كل أب يخاف على أولاده من بعده بأن يتقي الله، ويحفظ حدود الله كي يحفظ الله له أولاده: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9].
ويحدثنا القرآن الكريم في سورة الكهف عن الجدار الذي وقف حارسًا يحمي أموال طفلين صغيرين يتيمين، وينتظر أن يكبرا ويستخرجا كنزهما، حتى الجدار، حتى الجدار لما أوشك على السقوط، جنَّد الله نبيه موسى عليه السلام والعبد الصالح أن يأتيا من أقصى الأرض ليعيدا لهذا الجدار حيويته كي يقوم بدوره الذي كفله الله به، والقرآن يحكي لنا هذا الدور فيقول: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]، فصلاح الآباء أنزل الرحمات على أولادهم، لذا قال سعيد بن المسيب – رحمه الله – لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك.
وقالوا: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده.
وكان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي».
أما عن حفظ الله لهم في دينهم وهو أشرف ما يحفظ للعبد، ذلك لأنه سبيل الهلاك يوم الفزع الأكبر، لذا تكفل ربنا تبارك وتعالى أن يختم بالباقيات الصالحات أعمال الحافظين لحدوده، فمن مات على التوحيد، وكان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة، قد جاءت أحاديث كثيرة تبشر بذلك، ومن المعلوم من خلال استقراء نصوص الكتاب والسنة أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه.. ومن عاش على التوحيد، لن يعرف عند الاحتضار إلا كلمة التوحيد – بإذن الله – وهذا تفسير قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد النوم يقول: «..إن قبضت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين»[2].
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم احفظني بالإسلام قائمًا، و، واحفظني بالإسلام قاعدًا واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تُشمت بي عدوًا و لا حاسدًا»[3].
وثبت في السنة – كذلك – أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يودع صاحبه قال له: «استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك»[4].
ويعلق على ذلك بقوله الكريم: «إن الله إذا استودِع شيئًا حفظه»[5].
ولقد صرف الله عن نبيه يوسف عليه السلام كيد امرأة العزيز بقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
ويشرح الصحابي الجليل عبد الله بن عباس قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، فقال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار.
ويذكر الحسن البصري أهل المعاصي يومًا فيقول: هانوا على الله فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم.
حفظ حدود الله:
والعبد الحافظ لحدود الله تعالى يحظى بعون الله ومساعدته ومناصرته له في كل مكان، فمن المعلوم أن لله مع خلقه معية عامة ومعية خاصة ..
أما المعية العامة فتتجلى في رؤيته تعالى لعباده حيثما كانوا، قال سبحانه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7].. وكذلك قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108].
وأما المعية الخاصة وهي معية النصر والتأييد التي وعدها الله الحافظين لحدوده، فتراه في رد ربنا عز وجل على مخاوف نبيه موسى – عليه السلام – من بطش فرعون {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، لذا لما فر من فرعون وجنوده {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61]ذلك لأن البحر أمامهم وفرعون وجنوده من خلفهم، فرد عليهم العبد الواثق من معية الله له {كَلَّا.. إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].. ولقد رأينا هذه المعية تسيطر على نبينا صلى الله عليه وسلم وهو في الغار ليلة الهجرة، فيرد على صاحبه الجليل الذي يخاف على الدعوة وإمامها فيقول: والله يا رسول الله لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا.. فيقول صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»[6]، ويخلد الله هذه العبارة في كتابه الكريم فيقول: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
[1] أخرجه أحمد والترمذي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي. [2] متفق عليه. [3] أخرجه الحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع. [4] أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع. [5] أخرجه أحمد والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1708. [6] متفق عليه.