عندما يكون الإيمان مخدرًا نائمًا منزويًا في القلب تجد صاحبه غافلًا ، لا يستطيع أن يرى الدنيا على حقيقتها ، بل يراها جميلة مبهرة تذهب بالأبصار ، فيشتد حرصه عليها ، ويزداد فكره فيها وفي كيفية تحصيلها ..
فإن كان هذا الشخص طالبًا في المدرسة أو الجامعة تجده كثير الفكر في مستقبله ، وكيف سيُدبِّر أمر زواجه ، وعمله ، إلخ .
وإن كان فقيرًا تجده يحلم بالغنى ، وينظر نظرة الطامع إلى دنيا غيره .. يمُد عينيه إليها ويتمنَّاها لنفسه …
وإن كان ثريًّا تجده دائم الفكر في كيفية إنماء أمواله ، ومسابقة أقرانه ، واغتنام كل فرصة تلوح أمامه من شأنها أن تُزيده ثراء .
حالهم جميعًا كحال الأطفال وهم يلهون بالدُمى .. يفرحون إذا ما حصلوا على دُمية جديدة ، ويقضون معها الساعات الطوال ، ويحزنون عليها إذا ما انكسرت وتعطلت ، ويحلمون بشراء المزيد والمزيد منها . فإذا جلس إليهم من يكبُرُهم قليلًا في العمر وتجاوز مرحلة الطفولة ، تجده غير مبال بهم وبألعابهم واهتماماتهم .
كذلك حال الناس مع الدنيا ، فهم يلهون بطينها ويتنافسون عليها ، ويفرحون بتحصيل أي شيء منها ، ويظنُّون أن هذا هو غاية السعادة ، فإذا ما استيقظ الإيمان في قلوب بعضهم ، واستحكمت اليقظة منها ، فإنهم – وبصورة تلقائية – لا يجدون في أنفسهم رغبة في مشاركة من حولهم اللهو بهذا الطين ، وتنصرف رغبتهم – شيئًا فشيئًا – عنها .. هذا التحول ليس بأيديهم ، بل هو انعكاس لطبيعة مرحلة « النمو الإيماني » الذي ارتقوا إليه ، كحال من انتقل إلى مرحلة البلوغ من الأطفال عندما يأتيه أبوه بالدُمية التي طالما تاقت نفسه إليها في الصِغَر ، فإذا به يتعامل معها بدون لهفة ولا شغف ، وسُرعان ما يتركها ولا يُبالي بها .
وليس معنى انصراف الرغبة عن الدنيا هو هجرها وتركها وعدم التعامل مع مفرداتها ، بل إن الفرد في هذه المرحلة يتعامل معها على أنها مزرعة للآخرة ، وأنها مُسخَّرة له لتساعده في إنجاح مهمة وجوده عليها ، ولا بأس من التمتع بها بالقدر الذي لا يُنسيه تلك المهمة .
أو بمعنى آخر : تخرج الرغبة في الدنيا ، والشغف بها ، والحرص واللهفة عليها من قلبه ، فيتعامل معها بعقله قبل مشاعره ، وبما يُحقق له مصلحته الحقيقية في الدارين ، ويمكِّنه من نفع نفسه وأمته فيكون ممن يترك فيها أثرًا صالحًا ، وبذلك تُصبح الدنيا في يده ، يتحكم فيها ولا تتحكم فيه .