قد يأتي خاطر لقارئ القرآن عند تدبره له يجعله يقف كثيرًا عند كل كلمة وكل آية، مما يجعله لا يتجاوز بضع آيات في لقائه بالقرآن، وهذا الأمر ربما يسبب له ضيقًا في نفسه، وشعورًا بصعوبة الأمر.
فماذا نفعل؟!
بداية يجب علينا أن نعرف أن غاية التدبر هو إدراك المعنى الذي ترمي إليه الآية، وأن التدبر وحده لا يكفي لإنشاء وإنبات وزيادة الإيمان في القلب، وإلا لقرأنا القرآن بدون ترتيل، وبأعيننا فقط مثلما نقرأ في أي كتاب.. ولكن لأن غاية التلاوة هي الفهم والتأثر، كانت الوسيلة هي التدبر والترتيل، مع الأخذ في الاعتبار بأن التأثر القلبي الذي يولِّد الإيمان لابد وأن يمر من بوابة الفهم كما قال تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ` فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء:198 ، 199].
ولكن الوصول لدرجة التأثر القلبي يستدعي استمرارية القراءة، والسماح للآيات بأن تنساب داخل القلب، ويتصاعد تأثيرها شيئًا فشيئًا، فيستمر الطرق على المشاعر حتى تصل لدرجة التجاوب والتأثر، وهذا يستلزم عدم التوقف عند كل كلمة وإلا لما حدث التأثر.
علينا – إذًا- أن نقرأ الآيات ونفهم ما تدل عليه بصورة إجمالية، وأن نمرر ما لا نفهمه من آيات حتى يتسنى لنا بلوغ مرحلة التأثر, التي يحتاج الوصول إليها كثرة مرور الآيات على المشاعر، ودوام الطرق عليها.. وهذا ما أوصى به صلى الله عليه وسلم عندما رأى بعض الصحابة يختلفون فيما بينهم في معنى آية من الآيات فقال لهم:«إن القرآن لم ينزل يُكذب بعضه بعضًا، بل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه» [رواه الإمام أحمد وابن ماجه].
وقال عبد الله بن مسعود: إن للقرآن منارًا كمنار الطريق، فما عرفتم منه فتمسكوا به، وما يشبه – أو قال شُبّه عليكم – فكِلوه إلى عالمه [فضائل القرآن لأبي عبيد].
وفي المقابل فإننا حين نقف عند كل كلمة ونحاول سبر أغوارها، والغوص في معانيها فإننا بلا شك سنفهم فهمًا عميقًا، ولكن دون تأثر، وربما لن نتجاوز في القراءة بضع آيات، ولن نشعر من خلال القراءة بحلاوة الإيمان، ومن ثمَّ يؤدي ذلك بنا إلى الفتور والضيق بل والاستجابة لإلحاح النفس – ومن ورائها الشيطان – بالعودة إلى الطريقة القديمة التي تبحث عن الانتهاء من قراءة أكبر قدر ممكن دون تدبر ولا تأثر.
… إذًا فالمطلوب تدبر عام وإجمالي للآيات، وألا نقف عند كل كلمة لا نعرف معناها، بل نعمل على إدراك المعنى العام من السياق حتى يستمر انسياب الآيات داخلنا ويتصاعد تأثيرها شيئًا فشيئًا على المشاعر فيحدث التأثر.
فإن قلت: ولكني قد أقوم بذلك ولا أتأثر بالآيات، فهل أقوم بإعادة الآيات التي لم أتأثر بها؟!
هذا الأمر يجعل من الضروري أن نعرف طبيعة التأثر، فالتأثر هو رقة القلب، وانفعال المشاعر مع القراءة، وهو نادر الحدوث في البداية لابتعاد القلوب مدة طويلة عن القرآن، لذلك علينا أن نصبر ولا نمل، ولا نقوم بإعادة ما لم نتأثر به، بل نسترسل في القراءة، ونلتزم بالوسائل النبوية المشار إليها سلفًا مع دعاء الله بأن يفتح قلوبنا لغيث القرآن.
فإن فعلنا ذلك فستأتي تلك اللحظات السعيدة… إنها لحظات التأثر معلنة فتح قلوبنا لنور القرآن، فإذا داومنا، وأكثرنا من التلاوة ازدادت أوقات التأثر ورقة القلب حتى تصل إلى ما وصل إليه أبو بكر الصديق… فقد كان إذا بدأ قراءة القرآن لا يملك دمعه.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي قال: “مروا أبا بكر فليصل بالناس”, قالت: فقلت يا رسول الله: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه …
فلنصبر ولنصبر حتى يأتي التأثر، ومن المعينات التي تستجلبه وتستدعيه: دعاء الله بإلحاح أن يرزقنا فهم الآيات والتأثر بها، وكذلك التباكي له دور كبير في استجلاب التأثر, وتحسين الصوت بالقراءة قدر المستطاع، والاستفادة من أي وقت نجد فيه تأججًا للمشاعر مثل سماع خبر أو رؤية منظر مؤثر.. ففي هذا الوقت تكون المشاعر مهيأة لاستقبال القرآن والتأثر به أكثر من أي وقت آخر…
ومع هذا كله يبقى الانشغال بالقرآن وطول المكث معه أكبر عامل يستدعي التأثر ويطيل زمنه.